بدأنا مما انتهى إليه الآخرون

0 2٬700

بدأنا مما انتهى إليه الآخرون، وانتهينا حين بدأ الآخرون. عندما كان جيمس وات يضع أول تصاميمه للمحرك البخاري الذي كان شرارة الانطلاق للثورة الصناعية بإنجلترا، ومنها إلى باقي دول القارة العجوز، لم يكن يفكر في نوعية الملكية التي تحكمه، أهي برلمانية أم دستورية، لم يكن كذلك أديسون، وهو يصمم مصباحه ليضيء به العالم، يهتم أي نظام يحكمه أهو جمهوري أم ملكي، هؤلاء ومجتعاتهم كانوا يوقنون أشد اليقين أن نهضتهم لن تكون أولا إلا بنهضتهم العلمية والفكرية والأدبية.

لست هنا بصدد الاحتفاء بالحضارة الغربية وتمجيدها، لكن للتاريخ نواميس وقوانين ومنطق يسير عليه منذ بدء الحضارات والأمم. هاته القوانين تقضي بأن قبل كل نهضة في أي مجال، يسبقها إعداد وتكوين للعنصر البشري بحيث تجد النهضة منذ ولادتها من يقودها ويسير بها، باستمرار وبدون انقطاع، نحو الهدف المنشود والذي هو تحقيق العدل الاجتماعي بين بني البشر، العدل بمعناه المطلق والشامل للفكر والإبداع والتعليم والاقتصاد وكل مناحي الحياة.

إن كل نهضة تسعى وراء هذا الهدف الذي ذكرنا سالفا، دون أن تخلق أولا مجتمعا محتضنا واعيا ومدركا لأهميتها، تحكم على نفسها بالموت من الداخل، حيث يمكن أن تُهدَم من طرف المجتمع نفسه الذي أتت من أجل نهضته وعلوه. وأقصد بالوعي هنا، الوعي المعرفي والأخلاقي والديني خصوصا، لما يربي هذا الأخير في الإنسان من بواعث الخير وضمير حي يؤمن بالجزاء والعقاب.

لا يمكن التحدث الآن في مجتماعاتنا العربية عن مفاهيم الديمقراطية والعدل والنهضة بغية محاولة تنزيلها وتطبيقها، خصوصا أمام مجتمع يزخر بأشكال عديدة من الجهل والتخلف الفكري والإبداعي. فهذا المجتمع، بهاته المعطيات، هو من سيقف بجهل، جهلا لا يعذر به، أمام نهضته وتقدمه، ظنا منه أنه بصدد الإصلاح.


إن ما نعيشه اليوم في المغرب هو مثال حي لكل ما ذكرنا سابقا، حيث هناك فئة أرادت أن تأكل الكتف قبل نضجها، فنادت مجتمعها بالديمقراطية والنهضة، ونسيت أنها أمام مجتمع أغلبيته لا يقرؤون ولو كتابا في السنة، مجتمع معظم أطفاله يعرفون من أسماء اللاعبين ما لا يعرفون من العلماء والمفكرين، مجتمع ينتج من علب السجائر ما لا ينتجه من الكتب والبحوث العلمية. إننا يجب أن نبدأ من حيث انتهينا يوما وبدأ به الآخرون، ألا وهو العلم والوعي والمعرفة، لا أن نبدأ بمفاهيم الديمقراطية والنهضة التي انتهى إليها آخرون ونريد أن نبدأ بها نحن.