متى أضحى الوحش بطلا؟

من بين أهم الأحداث اليومية البسيطة -التي تساعدني على اكتشاف مجتمعنا العميق شيئاً فشيئاً- أجدُ ركوب سيارات الأجرة، التي غالباً ما تُقلُّني من الحي الذي أسكن به إلى مكان دراستي أو العكس، نظراً للبعد الشديد. استدعى جدولي الدراسي لليوم أن أقوم مرة أخرى بهذا النشاط الاجتماعي، كان يوماً حافلاً بامتياز، تراقصَت فيه الأرقام والحروف والرموز أمام عيني بشكلٍ يدعو إلى التعب، وكعادتي، اخترت مرة أخرى أن أعود إلى المنزل عبر سيارة أجرة…

كانت تجلس بالمقعد الخلفي سيدتان ثلاثينيات، ترمُقانني بنظراتٍ قادمة من أعينَ فضولية حائرة، الشيء الذي جعلني مضطرة إلى الجلوس بالمقعد الأمامي. وبعد فترة قصيرة، نزلت كلتا السيدتان في مكان وجهتهما، وانطلق السائق نحو وجهتي، بتعابير وجهٍ مشتتة، وكأنها تفضح تشتتا روحيا كبيراً.

خُلِقَ جوٌّ غريب يملؤه العبث والبرد والملل، ما جعل سائق الأجرة يحاول أن يخلق أي حديثٍ معي في محاولة لكسر هذا الأخير… وكإنسانة متفهمة للطبيعة الإنسانية التي قد تجعل المرء أحياناً يسترسل في أحاديث عفوية تنبثق عن الثقل الذي تحمله النفس، بهدف التخلص من الرواسب السيكولوجية المجتمعية، قررت أن ألعب دور المُنصت المحترم، وأن ألتزم الصمت حتى يكون إنصاتي هذا، مثاليا.

كان حديثاً عاديا، يشملُ ارتفاع الأسعار والخصاص بقطاع الصحة وتهميش المسؤولين لمطالب المُجتمع، والانحطاط الأخلاقي الذي غزا مواقع التواصل الاجتماعي، وسن الثلاثين الذي أضحى بمثابة الخط الأحمر الفاصل بين الشباب وطموحاتهم. باتت مُحاولاتُ السائق باهتة أمام تعبي، ومن ثم فاشلة. فجأةً، استوقف الحديث سيدتان أخريان، تسألان عن إمكانية التوصيل إلى وجهة أخرى، ثم صعِدتَا.

أكمل السائق حديثه، وأخذت كلتا السيدتان تواكبان كلتا أفكاره وتسلسل أفكاره، ومن فكرة إلى أخرى، ومن بين كلمة وأخرى، نطَّت كلمة “الزواج” إلى الحديث؛ فالسائق يفتخر وبشدة بتزويجه لابنته القاصر، بعد أن اختارت حسب قوله، ترك الدراسة.

همَّت إحدى السيدتان بتعجب يغلفه الغضب إلى سؤاله عن سبب انقطاع الابنة عن الدراسة، ليجيبها قائلاً: “في أحد الأيام اكتشفت أنها لم تحضر إلى قسمها لأسبوع كامل، كما لاحظت عدم قيامها بواجباتها المنزلية، فأبرحتها ضرباً حتى كدت أقتلها، لتكره بعد ذلك الدراسة والمدرسة وكل شيء يتعلق بهما.” بل والصادم في الأمر أن السيدة الثانية أخذت تمدح السائق، وتنعته بلقب “الرَّاجل”، داعمة هذا اللقب بعبارة “هادشي اللي يصلاح” بل وتفتخر بوجود آباء أقوياء ومسيطرين مثله!

تجمدت من هول الصدمة، لم أدرك ما الذي يجب علي أن أقوله بالضبط، فكرت مليا ثم خَلُصتُ إلى الحقيقة التي تشمل وجود فجوة كبيرة بيني وبين كل من يركب سيارة الأجرة تلك، كما أنني لن أستطيع أن أغير أي شيء لأن الفتاة بالفعل قد زُوِّجت، فاخترت أن أسِرَّ فِكري.

وصلتُ إلى وجهتي، نزلت منهكة الجسد غاضبة الأفكار، محملة بأطنان من الأسئلة أهمها بل وأثقلها؛ ما الذي يجعل حقاً، العُنف مرتبطاً بأدوار البطولة في مجتمعنا، وخاصة ذاك المتعلق بدور الآباء نحو الأبناء ؟!

1xbet casino siteleri bahis siteleri