عندما حدثني مصطفى الأب عن مصطفى الأديب

لقد كان أبي وما زال من المعجبين بالأديب مصطفى صادق الرافعي، وكان حريصا على تعليمنا -أنا وإخوتي- علوم اللغة العربية، فكان يقول: إن من أقرب الوسائل إلى نيل النّصيب الأوفر من اللغة العربية كتب الحديث فهي معدنٌ صافٍ، ومنبعٌ طاهرٌ للاغتراف من عباب اللّسان الشّريف، وهي تجمع الدّرّ المنثور من العلم، وتضمّ السّحر الحلال من البيان، وتحوي الحكم البيّن من الشّرع، فمن أقبل عليها جمع بين الحظوظ الكريمة، وإني لأحب مصطفى صادق الرافعي ولي من اسمه نصيب فهو دقيق النّظر، صائب الرّأي، حين قال: “لا فصاحة ولا لغة إلّا بالحرص على القرآن، والحديث، وكتب السّلف وآدابهم”.

قبل أن تقرأ للرافعي يجب أن تقرأ عن الرافعي، مذاهبه وآرائه، تقرأ عن الرافعي الشيخ، وعن الرافعي المحب صاحب أوراق الورد وحديث القمر والسحاب الأحمر؛ فكتاباته جرعات مركزه من أدب العالين، وهي بمثابة البذور، لاقت أرضا خصبة آتت أكلها، تنثرها في عقلك فيعمل العقل فيها بحقها، فتنبتت من حدائق وأثمار.

لقد قرأت للمنفلوطي وللزَّيَّات، ولزكيّ مبارك، ولطه حسين، وللبشريّ، وللعقّاد، ولمارون عبُّود، وللطّنطاويّ، وللمازنيّ، ولمحمود شاكر، ولغيرهم كثير لكني أجد نفسي مع الرافعي، أحاول الخروج إلاًّ أنَّ مَوجهُ العالي يجرفني لقاع بحره حيث الدرر، كلما غُصت أكثر كلما اكتشفت عالمه وكنوزه، فتخرج عليما بأسرار الأدب خبير، بعد جولات في أدبه تستطيع أن تقيم ما تقرأ وتعمل فيه قاعدة الذوق تلك التي تعلمتها مما يكتب وربما لن تجدها عند غيره. وحي القلم وما أدراك ما وحي القلم، أليس لكل رسول وحي ومعجزة!! فوحي القلم هو وحي ومعجزة الرافعي به دخل عالم الحب وربما لو بدأت بغيره لما سلمت له، هو مفتاح حديقته، حيث المعاني المثالية والنقد الذكي، قرأت في صفحات وحي القلم المعالم الأساسية للرافعي، رجل تأسلم على يديه الأدب، فهو هو عمدة الأدب الإسلامي.

في كتاباته يجد المحب الغزل اقرأ إن شئت أوراق الورد فهو يخبرك عن الرافعي حين أحب، وكيف تسرب ذلك السيل الجارف من الشعور إلى أنامله ومنها لقلمه ليرسم مدينة الحب الرافعية، بيد أنها مدينة متوازنة لا تصرح فوق الدين ولا تنطفئ تحت كتمان الهوى، فحديثه شجرة وافرة في ليلة مقمرة تتمدد جوارها وتحكي ما لا تسمعه لغيرك.

يجد الزاهد في كتاباته الرقائق التي تجعل القلب يرفرف شوقا لله وأنسا به، لقد ألقى الله على لسانه من الحكمة ليعوضه سبحانه عن نعمة السمع، ومن منا لم يحفظ أو يتغنى يوما بنشيده الرائع اسلمي يا مصر إنني الفدا!

إسلمي يا مصر إننى الفدا

ذى يدى إن مدت الدنيا يدا

أبداً لن تستكيني أبداً

إننى أرجو مع اليوم غداً

مقالات مرتبطة

ومعي قلبي وعزمي للجهاد

ولقلبي أنت بعد الدين دين

كل نبي كُتب له من الله التمكين فتمكن الرافعي من لغته التي حرم من نعمة سماعها فعوضه الله بأن تجري اللغة الساحرة سيالة من تحت قلمه لتعجز ذوي الأسماع ليسمي بحق معجزة البلاغة.

حين أقرأ له يبهرني أسلوبه الراقي وتجوله داخل شخصية أو موضوع حكايته حتى لكأنك تعيش دقات ثواني هذا الزمن القديم، بكلمات عتيده وبلاغة ساحرة ينتقل بك من ركن إلى ركن داخل أروقة القصة لتري وتعاين بعين أصحابها، وكثيرا ما حاولت أن آخذ زمام المبادرة لحل لغز من ألغاز قصته قبل أن أكملها (كثيرا حاولت أن أقفز بمخيلتي لاستشراف ما سيحدث أو لربما تمنيت أن أقوم بوشاية لأحد أفراد القصة بما يكنه الطرف الآخر له)، ثم يخلص للقيمة المرجوة من تلك الفقرة فيحللها تحليلا دقيقا لتخرج من قصته بدرس قيم، تأتيه الكلمات والمعاني طيعة ليشكلها على أي نسق أراد، فهو الهادئ الرقيق في غزله والحصان الجامح في توجيه الوصايا لأمته، شاء القدير أن يصاب بصمم تدريجي إلى أن وصل الثلاثين ففقد السمع تماما لتكتمل أدبيته فصار يلعب بالأساليب كعازف ماهر على وتر القلوب، ذلك الأصم الذي أسمع العرب ما أنتجته لغتهم فلا قاصي ولا داني من مثقفي الأمة لم يقرأ للرافعي أو على الأقل لم يسمع عنه.

أيُّ قارئٍ للعربيّة، راغبٍ في الأدب، بلغ الغاية فيما أراد، أو ما زال سالكًا مجدًّا في طريقه إليها، فلا بد له أن يرمي بسهامه إلى طلب الأدب ليسمع عن (المساكين) فيقبل عليه، ويتلقّف (أوراد الورد) فيهفو إليه، ويعرف (السّحاب الأحمر) فيميل إليه، ويطّلع على (رسائل الأحزان) فيقبل عليه قارئًا مستلذًّا بجمال الأسلوب، وجاهدًا بالكشف عن ألغاز الرّافعيّ، والصّبر على اكتناه فلسفته العظيمة، والتّوغّل في دقائق مراده، والتّعمُّق في حقائق مرامه، والبحث في تفاصيل مقصوده التي تغمض على من يكسل عن التّأمُّل والتّدبّر لمرامي الألفاظ والأساليب، فيتّهم أسلوب الرّافعيّ بالغموض والعسر،

أمّا (وحي القلم)، و(تاريخ آداب العرب)، و(تحت راية القرآن)، و(إعجاز القرآن والبلاغة النّبويّة)، فما هذه الأربعة إلّا موردٌ مهمٌّ من موارد الأدب والعلم والجدل، وقد أحسن الرّجل فيما أبدع، وأجاد فيما نقد، وصاول الخصم صادقًا في الخصومة، وعدا عليه أحيانًا لداعٍ من دواعي البشريّة النّاقصة التي لا يسلم منها أحدٌ، ولكنّه ظهر في كلّ أعماله إمامًا من أئمّة البيان، وقائدًا لأدباء العربيّة، وحاميًا للدّين من أن تناله أيدي المبطلين الذين يتزيّنون بالأدب ليسيئوا إليه، ويسحرون النّاس بحلو الكلام في معرض إهلاك العقول بباطل القول وفاسده.

ويجب على من يقرأ للرّافعيّ أن يفعل ذلك وهو ينشد اللّذّة العقليّة، ويروم سموّ النّفس، ويبحث في كتبه وهو يعتقد أنّه يناجي أديبًا يُلزمه تدقيق النّظر في معاطف كلامه حرفًا حرفًا، وكلمةً كلمةً، وجملةً جملة؛ وهذا ما يجعله يدرك السّرّ الذي طواه في فلسفته، ويفهم الغرض الذي أراد إخفاءه بحسن مهارته.

أفضت روحه إلى خالقها عن 57 عاما فنُعِيَ أديب العربيَّة الكبير مصطفى صادق الرّافعيّ، الذي نقول فيه مثل ما قاله ياقوت الحمويّ في رهين المحبِسيْن أبي العلاء المعرّيّ: (شهرته تغني عن صفته، وفضله ينطق بسجيّته).

رحم الله الرّافعيّ، وأسكنه في بحبوحة جنَّاته، وجعل حروفه في ميزان حسناته؛ فقد أصبح، كما قال تلميذه وصديقه محمود شاكر، “ميراثًا نتوارثه، وأدبًا نتدارسُه، وحنانًا نأوي إليه”.

1xbet casino siteleri bahis siteleri