قال عائشة!

“عائشة”، هكذا كان جواب الرسول ﷺ صريحا من غير تلميح، سريعا من غير تردد أو تأخير، عندما سئل عن أحب الناس إليه، تهجاها الرسول بقلبه فكانت منتظرة على رأس لسانه، والصاحب لم يفرغ بعد من سؤاله. كلما حدثتني الرغبة إلى الكتابة عن موقف لرسول الله مع زوجاته وخصوصا السيدة عائشة أجدني، من هيبة الموقف، أبحث فيه عن موضع أثبت فيه قدمي لبلوغ الغرض ونيل المأرب.

السيدة عائشة أوعب من عرفتهم ذكاء، وأجداهم محصولاً، ولـما قرأت ما تيسر لي من السيرة النبوية وما دونه العلماء بدى جليا مدى سعة علمها وغزارته رضي الله عنها.

بعد وفاة السيدة خديجة -رضي الله عنها- وبعدما استقر المقام بالنبي عليه السلام في المدينة؛ وجد شخصية عبقرية بالقرب منه ذات خصائص نوعية تمكنها من حفظ ميراث النبوة، ومستعدة كل الاستعداد لتلقي العلم ونقل مروياته من بعد وفاته ﷺ؛ فكانت هذه الفتاة النابغة في بيت صاحبه ورفيق دربه في الهجرة أبي بكر الصديق، إنها ابنته عائشة التي كان الإمام التابعي الشعبي عندما يذكرها يتعجب من دقة فقهها وسعة علمها، ثم يقول: “ما ظنكم بأدب النبوة؟”

نشأت عائشة -رضي الله عنها- في بيت خلو من الجاهلية، تعمه المودة والرحمة والحماسة للدين الجديد؛ فقد تزوج أبوها أبو بكر التيمي القرشي أمها أم رومان الكنانية التي جاءت إلى مكة من ديار قومها في السراة (وهي منطقة جنوب مكة) مع زوجها عبد الله بن الحارث، الذي حالف أبا بكر ثم لم يلبث حتى وافته المنية؛ فبادر حليفه رجل قريش النبيل إلى الزواج من هذه السيدة التي لم يعد في مكة لها نصير، وعاملها بمقتضى المروءة والعطف فأسلمت وحسن إسلامها، وكانت السيدة عائشة ثمرة هذه الأسرة الطيبة.

نمت السيدة عائشة في بيت يذود عن الرسالة وصاحبها ﷺ، وفي ذلك تقول: “لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين” فشهرة أبيها أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وبلائه في خدمة الإسلام كانت كشهرة الإسلام نفسه. أما أمها أم رومان الكِنانية فقد ودعها النبي الكريم يوم دفنها بيديه الشرفيتين سنة السادس للهجرة وهو يقول: “اللهم إنه لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفي رسولك”.

تولى أبو بكر تعليم عائشة رضي الله عنها؛ إذ لم يكن منشغلا بما انشغل به أبناء الأسر القريشية الكبرى من بني هاشم وبني أمية وبني مخزوم. فأخذت عنه عائشة علوم قومها من فصاحة وشعر، ومعرفة بأيام العرب، وعلم بالأنساب وكان أبو بكر “أنسب قريش لقريش”؛ كما يقول ابن هشام الحميري في “السيرة النبوية”.

مقالات مرتبطة

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان رسول الله كثيرا ما يقول لي: يا عائشة! ما فعلت أبياتك؟ فأقول: وأي أبياتي تريد يا رسول الله، فإنها كثيرة”

ويكفي لبيان مهارتها في مرويات الشعر ونقده أنها كانت حكماً للشعراء الشباب من أبناء الصحابة؛ فقد أورد الطبري في كتابه النفيس “تهذيب الآثار” أن عروة بن الزبير ومروان بن الحكم تناشدا في بيتها ذات مرة الأشعار وكانت تستمتع إليهما من وراء حجاب، وفي نهاية منافستهما حكمت لمروان بمقتضى الموهبة الشعرية على ابن أختها عروة الذي خاطبته قائلة: “إن لمروان في الشعر إرثا ليس لك”.

امتلكت السيدة عائشة استعدادين اثنين جعلاها وعاء للعلم النبوي، أما الأول فاستعداد فطري لسرعة الحفظ وحسن الفهم وجودة التعبير عن نفسها؛ فليس من المبالغة وصفها بأنها كانت تملك ذاكرة صمغية يلصق بها كل شيء، ولذا كانت تحفظ الحديث لأول مرة، والثاني فهو قدرتها على توجيه وتطويع طباعها الشخصية من غيرة وحدة وجرأة من أجل القيام برسالتها. كانت عائشة من أشد النساء غيرة، فقد كانت وحيدة أمها المدللة، إذ لم تشركها فتاة أخرى في عائلتها وجاءت بين صبيين. ولما صارت عند النبي ﷺ كانت هي المقدمة دائما. فكانت شديدة الغيرة وقد حملتها تلك الغيرة على تلطيخ وجه سودة -في القصة المشهورة- التي كانت عائشة تقدرها، وتمنت أن تكون مثلها فقالت مرة: “ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في مِسْلاخِها (يعني أكون نسخة منها) من سودة بنت زمعة. وكذلك كسرها طبقا لإحدى أمهات المؤمنين أهدت فيه طعاما إلى النبي وأصحابه وهم في بيت عائشة، فقال صلى الله عليه وسلم: “غارتْ أمكم”.

كانت عائشة رضي الله عنها حادة الطباع لم يكن أحد يستطيع التصدي لها ساعة حدتها أو يقدر على إسكاتها؛ وهذه الحدة هي التي حملت عائشة -حين أمرتها أمها بالقيام إلى النبي وشكره بعد بشارته لها بنزول الوحي ببراءتها من تهمة أصحاب الإفك لها- على أن تقول بكل حدة: “والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله”.

كانت عائشة تعرف أنها لن تغلب على قلب النبي وتنافس خديجة بالشعور العاطفي الصرف، لمعرفتها أن تعلقه عليه السلام بخديجة تعلق محبة وإعجاب، ومن ثم صارت تسعى لتحصيل المناقب المستوجبة للإعجاب، فأقبلت على التعلم والتزود من نبع النبوة، حتى تشعر زوجها عليه السلام بأنه مع تقدم خديجة عليها في توفير العون والرعاية للنبي ﷺ في تأدية الرسالة، فإنها قادرة على لحاقها بحفظ رسالته من بعده وإيصال تعاليمها إلى الناس.

لقد شهدت حياة عائشة -رضي الله عنها- نشاطا حافلا بالحب بالعلم والعمل وخدمة الأمة، وخلفت علما قيما. أحبها النبي ﷺ فكانت حبيبة قلبه ولم يكن يخجل عن الإفصاح والإقرار بحبه لها.

أكتفي بهذه النقاط؛ مخافة الإطالة، وحذر الإسهاب، وأختم بلفتة بسيطة ألا وهي أن الإسلام عبر نصوصه الصريحة وسيرة رسوله وصحابته لا يعادي الحب والبوح بالمكنون والتصريح به، أكان ذلك للزوج يريد به زوجته، أو حتى لآخر إذا أحس في نفسه ميولا إلى روحٍ تشاكله فأحبها وانشرح صدره لها، وأدرك لِما اعتراه إثر معرفتها من شوقٍ خافق لها وحنينٍ دافق لقربها واستحسانٍ لجوهرها وفكرها وتفاصيلها، أن ما به رعدة حب ماكث مستحكم، لا سحابة إعجاب صيفية سرعان ما تخبو شعلتها وتتلاشى نشوتها فيصفو قلبه منها منصرفا إلى غيرها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri