القراءة: خبزنا اليومي!
ليس ثمّة شكٌ بأن أهمية القراءة وضرورتها، تشكل حقيقة لا يختلف حولها اثنان. لا يستمد هذا الموضوع أهمية من عدم تناوله من طرف الكتاب أو النقاد أو الدارسين للغة من قبل، فالمدونات الشخصية والمنصات الرقمية ذات الصلة بالفكر والأدب والثقافة ملأى بالمواضيع المرتبطة بالقراءة وطافحة به.
لكن، تتمثل أهميتها في السعي لمحاولة جديدة لجعل القراءة عادة، مثل باقي الأنشطة ذات الصبغة الروتينية، أو ربما من أجل أن “تصبح القراءة خبزنا اليومي!”
لا تكفينا الكتابة للتعبير عن عمق الأسف الذي نشعر به وحجم الأسى الذي يتردد بدواخلنا إزاء إشكالية القراءة في المجتمع العربي، لكن المهمة الحقيقية لكل فاعل في شبكة العلاقات الاجتماعية هي ترسيخ ثقافة القراءة لدى الأطفال والشباب، الصغار والكبار، ليس من خلال الكتابة وحسب، بل أيضا تفعيل المنطق العملي في كل جانب من الجوانب التي تخصّ المجال الثقافي والفكري في مجتمعنا.
يشغل الحديث عن القراءة حيزا كبيرا داخل أوساط المثقفين والمفكرين، هذه الفئة التي تعزو كل تغيير إلى وعي الطبقة التحتية. هذا الوعي الذي لا يتحقق من خلال الواقع وحده بل أيضا من خلال تكوين فكرة أولية عن المبادئ الكبرى التي تحكم أي فعل أو قضية، والعوامل المؤثرة سواء في بروزها أو في تغييرها، لذلك فإنه حري بنا قراءة الكتب لمعرفة أفضل عن الحياة وللاستفادة من الخبرات والتجارب السابقة لأولئك الكتاب.
إن القراءة تساعدنا على تكييف الواقع والشعور به، وهي بهذا المعنى تهيئنا لنكون فاعلين إيجابيين في المجتمع، لذلك معظم الدراسات ذات الصلة تؤكد أن الذي يقرأ الكتب يكون أكثر استعدادا لمساعدة الآخرين، كما أنها سبب في ارتفاع هرمون السعادة لدى القراء. ومن إيجابياتها كذلك أنها توسع مدارك الإنسان وتجعله أكثر إبداعا، وأقل عرضة للإصابة بمرض الزهايمر أو داء النسيان.
“الشعوب التي لا تقرأ تموت قبل أوانها”.
مالك بن نبي
إن الثورة المعلوماتية والتكنولوجية وانفجار العالم الرقمي الجديد، عوامل أدت إلى تشكيل وعي سيبراني لدى فئات عريضة من سكان الأرض. وقد نتج عن الاستخدام غير المعقلن لهذه الوسائل تحول على مستوى تفكير وسلوك المستخدم، بحيث لم تعد هناك شبكة فعلية للعلاقات الاجتماعية كما عرفها إنسان القرون الماضية، بسبب تفكك المنظومة الاجتماعية التي نشأ عنها وضع يفسر نزوع الفرد نحو التقوقع حول الذات، وترسيم حدود تحفظ وهم الخصوصية من اختراق الغير.
هذه العقلية السيبرانية الجديدة أغلقت على الذات وجعلتها تعيش حياة افتراضية مكنتها من تحقيق نوع من التعالي والتجرد عن الواقع وهمومه، وبالتالي أخضعت الأنا ضمن هذا الوضع لشروط مشابهة لنظام الآلة، وهو ما جعل نشاط العقل يتوقف عند الصورة المجازية وفك الترميزات الإلكترونية دون أن يتجاوز ذلك بالقفز نحو الارتباط بالواقع والخوض في تحسينه وتطويره.
هذا الوضع يقتل الشعور بالزمن، وتكيفنا مع هذا التحول المناقض للطبيعة البشرية جعلنا أكثر تشابها، وهو أمر ينسف الادعاء بأن هناك خصوصية، فكان الفايسبوك هو تلك المطرقة التي حطمت هذا الاعتقاد، فمعظم -إن لم نقل الكل- سكان العالم اليوم لديهم فايسبوك، الكل أصبح يتقاسم حياته الخاصة والعامة مع الآخرين.
إنني، إلى الآن، لم أخرج عن سياق الموضوع الأصلي، وعلى الرغم من أنني استغرقت في الكلام إلا أن ذلك يخدم جوهر الرسالة، فعلاقة التكنولوجيا بالكتاب تكاد لا تظهر جلية للبعض لكنها علاقة خفية تنطوي على أمرين: الأمر الأول يقتضي تحليل موقف التكنولوجيا من القراءة، ذلك أن التكنولوجيا تقضم الزمن الفكري للإنسان وتجعله مستغرقا في عالم افتراضي يطرح على المستخدم مسؤولية تغيير الواقع أو التفكير فيه حتى، ولهذا كان الكتاب آخر هم الناشطين في التيك توك ولاعبي بابجي ورواد الفايسبوك.
لقد رأينا كيف تحولت العلاقات وأخذت تجري مجرى التفكك الذي يتغذى على البغض والحسد، زيادة على كون الاستخدام غير خاضع للشروط الأخلاقية والدينية والاعتبارات القانونية، وهي حالة تجر إلى المخاصمة والاقتتال. الأمر الثاني أن المستخدم لا يشعر بالزمن عندما يكون مستغرقا في البحث عن مسألة معينة داخل الإنترنت، أو يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي تضيع منه أزهى أوقاته في العبث بالهاتف دون أن يحقق أدنى فائدة تنعكس عليه بصورة إيجابية سواء في الثقافة أو الفكر أو الدين.
لكن جانبا مهما من التطور الإنساني جعل فعل القراءة غير مقيد بشرط مادي أو اعتباري، لقد مكن ظهور الإنترنت من السماح لجميع الأفراد بالانفتاح على الثقافات واللغات المغايرة وكذا قراءة الكتب التي صارت متاحة في المنصات الرقمية ذات الصلة، وهو الشيء الذي خلق نوعا جديدا من القراءة لارتباطه بهذا التطور، والقراءة الرقمية هي جزء من هذا التطور وأحد نتائجه العظيمة، وقد يكفي المرء إدخال اسم الكتاب ليصبح في متناوله بكبسة زر واحدة أو يدخل صنف الكتب الذي يريده ليجد نفسه وسط بحر من العناوين لا أفق له. ونحن نسعى إلى أن يصبح الكتاب حقيقة لا مناص منها بالنسبة لكل شخص في هذا العالم.
إن قراءة الكتب هي التجربة الوحيدة التي نؤمن بقدرتها على إحداث الفرق، بالتالي ما يخلق التميز للذات ليس الأشياء التي نمتلكها، وإنما التميز لمن يقرأ ويبحث عن المعرفة.
لا تأخذ القراءة من وقتنا الشيء الكثير، يكفي أن تقرأ ساعة أو ساعتين في اليوم لتصبح قارئا جيدا في المستقبل. ورد الاعتبار للكتاب هو دور منوط بالمؤسسات الثقافية والهيئات التي في حكمها من قبيل وزارة الثقافة ووزارة التعليم لما لهما من مسؤولية في الرقي بالواقع الثقافي من خلال تفعيل برامج مشجعة ومحفزة للأفراد على الاتجاه نحو تبني ثقافة حمل وقراءة الكتاب.
إذا لم نجعل من الكتاب رفيقا يوميا لحياتنا فإنه لا مجال للحديث عن التغيير والنهضة والتنمية، أي أن ترى المسافر يقرأ أثناء سفره، والجالس في المقهى يحتسي قهوة مع رواية أو كتاب، وحارس البوابة مع كتابه، والنجار والخباز والخياط والسائق والطبيب، كلهم مع خير جليس ألا وهو الكتاب.
لذلك يصعب أن تنجح الثورة أو تستمر لأن معظم الثورات فشلت بسبب قيامها على أرضية هشة ممثلة في غياب العقل السليم الذي سيحتضن فكرة التغيير ويطورها، ومن ثم يسهم في نشرها وتبليغها للأجيال بوصفها رسالة تنويرية قوامها الوعي النبيه الذي لم يكن ليتحقق لو لم يسعفه الكتاب في تأسيس مرجعية فكرية من شأنها الإحاطة بالقضايا الكبرى للمجتمع، وبالتالي تغييره. وهذا لن يتأتى حقيقة إلا من خلال طريق واحد: أن تصبح القراءة خبزنا اليومي!