المدينة الفاضلة: كما تصورها المعلم الثاني الفارابي

2٬460

لا شك أن الفلسفة العربية الإسلامية سلكت في بداياتها المسلك التقليدي، فالفلاسفة الأوائل فكروا في الوجود والفِيزِيقَا وما بعد الفيزيقا وفي السياسة وغيرها…فكروا في كل هذه المسائل وهم متأثرون بالإغريق، بعد حركة الترجمة، وبالتحديد في العصر العباسي الأول؛ وقد مهَّدَ لذلك وجود كتب فلاسفة اليونان في مجالات عدة: علم الفلك، والطب، والرياضيات، والفلسفة…ضمن أول أكاديمية في العالم الإسلامي، وأطلق عليها اسم “بيت الحكمة” التي أسسها هارون الرشيد، وطورها المأمون فيما بعد.

ولعَلَّ أبا نصر الفارابي واحدا من ألمع الفلاسفة في تاريخ الإسلام، بل في العصر الوسيط عموما، حتى أنه استحق عند معاصريه لقب المعلم الثاني، بعد المعلم الأول أرسطو، قرينه في المكانة العلمية التي احتازها في تاريخ العربي الإسلامي. ولا بد أن نشير ولو إشارة مختصرة إلى أهمية الفارابي، الذي كرس أوسع الأفكار في الفلسفة السياسية مختلفا عن سابقيه ولاحقيه. وما دمنا في سياق الحديث عن الفارابي ودوره في الفلسفة الإسلامية، فإننا سنركز اهتمامنا على الأقل في هذه المحاولة على فلسفته السياسية، وذلك من خلال تسليط الضوء على أطروحته الأساسية المتمثلة بالمدينة الفاضلة.

يعتبر الفيلسوف الماثل أمامنا واحدا من الفلاسفة الذين وضعوا المبادئ والتصورات الكفيلة لتحقيق السعادة القصوى للمجتمع الذي يتكون من الرئيس، والمواطنين، ومراتب الرئاسة المختلفة، في إطار مجتمع المدينة الواحدة (المدينة الفاضلة)؛ وذلك وفق تصور فلسفي مثالي مستمد في جانب كبير منه من أفكار أحد عمالقة الفكر الفلسفي في التاريخ كله -أفلاطون وأرسطو، وكذا من الشريعة الإسلامية، لينتهي بعد ذلك إلى وضع تصور فلسفي إتيقي للعلم السياسي، الذي يكون قادرا على تحقيق السعادة لمجتمع المدينة الفاضلة.

بمجرد أن نسمع المدينة الفاضلة يتوارد إلى أذهاننا أنها مدينة خيالية مثالية لا وجود لها، بينما الصحيح والأصح عند الفارابي أن المدينة الفاضلة؛ هي المدينة التي تكون الأخلاق فيها هي جوهر السياسة (أي تدبير السياسة يجب أن يكون أخلاقيا) وللإشارة يُحذّر الفارابي من الفصل بينهما، ولذلك يجب أن تكون المدينة فاضلة.

والحديث عن مدينة الفارابي الفاضلة، يفترض ضمنياً الحديث عن مدينة أفلاطون المثالية، مدينة يحكمها الحكماء والفلاسفة الذين يملكون أخلاقا متعالية، بينما عند الفارابي هي مدينة يحكمها إنسان هو رئيسها. قبل الصعود على متن القارب والإبحار تجاه أهمية الرئيس في مجتمع المدينة الفاضلة، وجب أولا طرح إشكالية مفادها: لماذا يحتاج الإنسان إلى المجتمع؟

جواباً عن السؤال أعلاه، ينطلق الفارابي من فرضية مفادها أن الإنسان يحتاج إلى الإجتماع، باعتباره كائنا اجتماعيا سياسيا، فمنذ وجوده على الأرض كان بحاجة إلى رفاق من جنسه، بحيث يعتبر الفارابي أن المرء الوحيد لا يتوفر على كفاية ذاتية التي من خلالها يسد حاجياته، ولذلك يقول: لا وجود لإنسان يستطيع أن يعيش في غنوة عن الآخرين لأنه في حاجة إليهم.

مقالات مرتبطة

وفي هذا الصدد يقول أفلاطون: أقصى شيء يمكن أن يفعله الإنسان هو أن يتخصص في مجال معين، وباقي المجالات يتكلف بها الآخرون (المجتمع)، والجماعات الإنسانية عند الفارابي تنقسم إلى ثلاث أصناف: عظمى، وسطى، وصغرى، فالعظمى هي الجماعة الإنسانية برمتها، أما الوسطى فهي جزء من الجماعة الإنسانية نسميها الأمة، والصغرى هي التي تؤمُها مدينة، وتكون المدينة جزءا من كيان الأمة، والجماعات الثلاث هي الجماعات الكاملة.

وفي مقابلها هناك الجماعات الناقصة، وهي تجمعات القرى والمحال والسكك والبيوت؛ وهي خادمة للمدينة وجزء منها. اعتبرها الفارابي (محلة أو شارع) فيها قلة العدد، وبالتالي نحن أمام منسوب أقل من قضاء الحاجات، وبالتالي منسوب أقل من السعادة. والجماعات الإنسانية الكاملة تنقسم أمما، وأساس التميز بينها حسب الفارابي هو اللسان (لغة العالم/الثقافة) وليس الخلقة والشيم.

في هذا الصدد، يبرز إشكال يطرح نفسه بقوة: ما هي الصفات الضرورية لرئيس المدينة الفاضلة؟ يولي الفارابي للرئيس أهمية كبيرة في مجتمع المدينة الفاضلة، فالمجتمع في حاجة إلى سلطة الرئيس، كي لا يسقط في الفوضى، ولذلك دائما يشبه الرئيس بالعضو الرئيسي في الجسم ألا وهو القلب وليس العقل، إذا توقف القلب توقفت الحياة، وشبه باقي الناس بالجسد، وهذا يعني أنه لا يمكن للجسد أن يقوم بأي شيء دون مركز التحكم لإصدار القرارات الذي هو الرئيس، وقال بأهمية الناس حسب تراتبية الجسد، فكلما اقترب من القلب صار أهمية من دون أدناه (الأعلى أكثر أهمية من الأدنى) وعليه، فالرئيس هو علة وجود المدينة الفاضلة، ووجوده سابق على وجود المدينة الفاضلة ذاتها. وبالتالي وجب على المدينة الفاضلة، أن يكون لها رئيس يعد أسمى وأكمل الأفراد فيها، لذلك ينبغي أن يتوفر على الخصال الإثنا عشرة التالية:

ينبغي أن يكون سليم البدن، جيد الحفظ والفهم حتى لا يخطأ في التدابير التي يلجأ إليها، فطنا ذكيا، حسن العبارة، محبا للتعليم والاستفادة، غير شره (الإسراف) في المأكول والمشروب، محبا للصدق ومتفاديا للكذب كي يكسب ثقة جمهوره ومحبتهم، كبير النفس ومحبا للكرامة، قنوعا، محبا للعدل، قوي العزيمة، شجاعا ولا يخاف في الحروب. هذه الخصال، هي التي ينبغي أن يتحلى بها المرء لكي يكون رئيس المدينة الفاضلة، ولكي يدعم عزمه يلاحظ أن اجتماعها في إنسان واحد أمر عسير، كما ينفي أن تكون خصالا متحصلة بالفطرة.

على نفس المسار يستعرض الفارابي حاكما بديلا أسماه الوكيل، شروط هذا أقل من الشروط الإثنا عشرة للحاكم الأول، وهي شروط والتي من خلالها يفترض أن يتبع الحاكم الأصيل لكي يقدر على استنباط الأحكام، أو الاجتهاد للوصول إلى ما طرحه الرئيس الأول الذي يعتبر رجلا بلغ الكمال. يظهر مما مر أن الرئيس الأول لا يحتاج -في شيء- أن يرأسه إنسان، الأمر الذي يستدعي بطبيعة الحال أن تكون العلوم والمعارف لديه حاصلة بالفعل، لكي لا يكون في حاجة لمن يرشده. وركز الفارابي بشكل رئيس على أن يكون الرئيس حكيما أو فيلسوفا أو نبيا.

المصادر:
-كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة لمؤلفه أبو نصر الفارابي.
-كتاب جمهورية أفلاطون.
-كتاب السياسة المدنية للفارابي.

1xbet casino siteleri bahis siteleri