إتيكيت المائدة
ارتأيت، انطلاقا من هذا المقال، أن أغوص في الجذور الأولية لـ “آداب المائدة” التي لا يمكن عزلها بطبيعة الحال عن النسق الثقافي الذي ينتمي إليه الفاعل الغذائي. ولعلَّ العالم المعاصر يمر في فترتنا الحالية بمرحلة انحطاطية في هذا الأمر، خاصةً بعد انقراض وجبة العشاء الكلاسيكية المتعارف عليها، والتي تستقطب الأسرة حولها، وتُمكِّن رَب البيت من الإِجْهاز السريع على أيّ تصرفٍ يكونُ مُنافياً لقواعد المنزل، وبخاصةٍ قواعد المائدة.
إن سبب تقهقر هذه السلوكيات راجع بالأساس إلى ارتفاع وتيرة الوجبات السريعة، وانتشار المطاعم بشكل واسع، مما جعل من يُكنّ اهتماماً بآداب المائدة اليوم عُرضة للسخرية من أقرانه، وكأننا أمام عودة أولى للعصور القديمة. والواقع أن المشكلة ليست حديثة العهد؛ إذ لم يتوفر الإنسان البدائي المُنشغل بالبحث عن الطعام النادر والصعب، الوقت الكافي للاهتمام بآداب السلوك، بل لم يكن في حاجة لتلك الآداب؛ إذ كان يأكل خلسة وعلى انفراد، وفي أماكن مختلفة.
يعود تاريخ المطبخ إلى حوالي 9000 ق.م إلى نقطة تحوّل الإنسان من أكل لحم الحيوانات التي يصطادها إلى ما يمنحه نبات الأرض من ثمار، مما فتح أمام هذا الكائن الإنساني باب الاستقرار، وأدى إلى توفير الطعام، ليفسح له المجال أن يأكل جماعيا في صحن واحد، وأن يُراعي قيمًا وعاداتٍ معيّنة في الجو الجماعي الذي يعيشه على مائدة الطعام. أصبحنا في هذه الفترة أمام طقوسٍ وقواعدٍ جديدة في إعداد الطعام وآداب تناوله. ولا شك أن هذا الواقع الجديد ترك آثاره على الفراعنة، ما دفعهم للبحث في أصول آداب الطعام، لذلك يعتبر الفراعنة أول من فكّر بالإتيكيت، وقد طلب الفرعون إيزيس من وزيره “بتاحوتيب” أن يضع المبادئ التي يمكن اعتمادها أثناء تناول الطعام، وقد عُرِفت هذه المبادئ باسم “إرشادات بتاحوتيب” وضعت سنة 2500 قبل المسيح، وتعتبر أول كتاب عن آداب السلوك في التاريخ. يحتوي المخطوط على فصول في كيفية إعداد الطعام وتناوله، كما يرشد المرء إن كان في حضرة شخص أعلى منه مرتبة أن يضحك كلما ضحك ذلك الشخص، وأن يحاول ما أمكن ﻋﺪم معارضة رأي رئيسيه احتراما له.
جدير بالذكر أنّ طريقة تناول الطعام تدخل ضمن سلوكيات المائدة، كما تقدم أدلة مهمة حول كيفية فهم العصر؛ حيث كان نبلاء الرومان يتناولون بواسطة أصابعهم، شأنهم شأن جميع الأوروبيين، حتى حلول عصر النهضة وما تميز به من ذوق وإبداع في شتى المجالات. كان الإنسان الفظ في عهد الرومان ينقض على الطعام بيده كاملة، خلافا للمهذب الذي كان يلتقطه بثلاثة أصابع مُراعيا عدم تلويث إصبعي الخنصر والبنصر، بالتالي في المجتمع الجيد لا يضع المرء كلتا يديه في الطبق، والأكثر دقة هو استخدام ثلاثة أصابع فقط من اليد، خاصةٍ إذا كان الإنسان يتناول طعامه في بيئة أرستقراطية.
يعتقد بعض المؤرخين أن هذه الشوكات الصغيرة لاقت آنذاك معارضة لاستخدامها، فقد ادعى الكهنة بأن الطعام هبة من الله للبشرية جمعاء، لذلك لا يجب ملامسته إلاّ بالأصابع، وهناك من يذهب بالقول إن الشوكة من أزياء نسائية بالدرجة الأولى، فضلا عن من اعتبرها أداة شيطانية. وعليه، بقيت الشوكة مُدعاة للسخرية، إلى حدود القرن الثامن عشر، حيث كانت بادئ الأمر أداة لتمييز الفروق الطبقية، ومع اندلاع الثورة الفرنسية زادت طبقة النبلاء الحاكمة من استخدامها للشوكة، وأضحت رمزاً للثراء والتهذيب، وسرعان ما أضحى لمس الطعام بالأصابع تصرفاً يعكس التخلف الاجتماعي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية تعد الملعقة أقدم من الشوكة بآلاف السنين، ويكمن الاختلاف بينهما أن الأولى لم تتعرض هي ولا لمستخدميها للاستهزاء كما جرى للأداة الأولى، فقد لاقت القبول منذ بزوغها كوسيلة عملية لتناول الطعام وخاصة السوائل منه. يترتب على ذلك أن الملعقة معروفة منذ فجر التاريخ في العديد من الحضارات، كحضارة اليونان القديمة على سبيل المثال. ويعتقد أن المصريين القدامى أول من استعملوها حيث كانت مصنوعة من حجر الصوان، ثم طوّرها الآسيويون مستخدمين العظم والصفيح في صناعتها خاصة في عصور الظلام.
إن من الواضح أن الإنسان القديم كان يتمتع بالقدرة على التصميم والإبداع، وقد صنع سكينا من قطعة حجرية قبل مليون ونصف المليون سنة، وأدت السكاكين منذ ذلك الحين دورا محوريا في حياة البشرية، فكانت أداة للقتال والصيد والطعام في الآن ذاته. ثلاث مهام رئيسية تجعلها ذات قيمة كبرى مقارنة مع الأدوات السالفة الذكر. ظهرت السكاكين إذن قبل مليون ونصف المليون من الأعوام والملعقة قبل عشرين ألف سنة، والشوكة قبل تسعة قرون، لكن اجتماعها معا على المائدة الحديثة استغرق عصورا، ووجودها اليوم أضحى أمراً عادياً.
عطفاً على ما تقدم، إن كتب آداب السلوك قدمت للبشرية ﻧﺼﺎﺋﺢ وإرﺷﺎدات ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻓﻌﺎﻟﺔ ﻓﻲ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ مع المائدة من قبيل: من الوقاحة أن تقدم لشخص ما نِصف ما أكلته بنفسك، مَضغ العظمة وإعادتها للصحن إساءة بالغة الآداب للمائدة، عدم العودة إلى الصحن إذا ما كان فمك ممتلئا، ينصح بالاستدارة على المائدة عند تنظيف أو السعال بحيث لا تسقط نواتج الأنف على المائدة، كما وجب تنظيف الفم لا بغطاء الطاولة أو كَم المعطف بل بالإصبع، ناهيك عن ضرورة الجلوس بشكل مستقيم على كرسي عالي الظهر، كما أن الانحناء على الصحن أثناء تناول الطعام سلوك قبيح.