لنتحدّث قليلا عن الموت!
يكتسي الحديث عن الموت أهمية قصوى في الواقع الإنساني، باعتبار أن الإنسان بطبيعته يهرب من الموت، بل يحاربه بكل ما يملك من وسائل الوقاية والعلاج، موجدا نفسه بين جدلية الفرار والكفاح أو الصراع، وفشله في ذلك يجعله يقبل به، بوصفه جزءا طبيعيا من الحياة، لكن يظل دائما لغزا يتعلق بالحياة، والتفكير فيه لوقت طويل قد يشعر الفرد بالخوف من التوقف عن الوجود. وعليه، فإن إشكالية الموت في عمقها تقدم تأملا فلسفيا في الوضع البشري، وتدفعنا إلى طرح أسئلة فلسفية وجودية من قبيل: من نحن؟ من أين نأتي؟ وما هو مصيرنا بعد الموت؟
لا شك أن الموت يعد من الأمور المألوفة لدى الإنسان، بيد أنه غامض للغاية، فالتفكير في احتمال موت المرء، هو تأمل مستمر لجهلنا به؛ حيث لا توجد طريقة لمعرفة الموت، لذلك نميل إلى تجنب الموت في أفكارنا وأفعالنا. وإن كان الموت مستقبلنا، فكثيرا ما يستغرق زمنا لكي ندرك أنه يلوح بنا، لأن الموت ليس له معنى شخصيا على الإطلاق، “سيأتي لي، لكن ليس أبدا، بالطبع أنا أعلم أنني سأموت، الموت موجود في كل مكان، وهو يعني نهاية مستقبلي”.
لعل مسألة الموت في التاريخ البشري قد جرى فهمها عبر الأسطورة، ونستحضر بهذا الصدد أحد أهم المفكرين الذين تركوا بصمتهم في تاريخ الفكر الغربي، وهو الفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي تكلم في محاوراته، وخاصة “الجمهورية” عن فكرة خلود الروح، باستحضاره أسطورة بطلها جندي يدعى إر ER أو عير، مات في المعركة، عندما تم نقل جثت القتلى الهالكة، تم العثور على جثته غير متأثرة بالتحلل، وعندما كان يرقد على حطبه الجنائزية التي كان سيحرق عليها، عاد إلى الحياة، وبدأ يروي لهم ما رآه في العالم الآخر، وهي إشارة غريزية إلى رغبة الإنسان في التشبث بالحياة حتى بعد مماته.
كان السؤال عما يحدث لنا عندما نموت هو الشغل الشاغل في معظم تقاليد الفكر الديني عبر العصور؛ حيث كان الموت حاضرا كواقع ملموس يجب مواجهته بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل الأفراد. كما أنه يعتبر مدخلا أساسيا للفردوس، باعتباره تتويجا للإنسان لما قام به من تضحيات بالذات، من أجل معتقده في عالم الدنيا الذي نعيش فيه، سواء أكان الفرد يهوديا أو مسيحيا أو إسلاميا. ويمكن للدين أن يساعد المرء على عدم الخوف من الموت وتقبله، بما أنه تأكيدٌ قوي للالتزام بالانسانية، بمقصده النهائي (الأصلي). غير أن ما يمكن توضيحه هو أن الموت لا يمكن أن يؤدي إلى العدم، هذه مسلمة تتوافق جليا مع تعاليم جميع التقاليد الدينية التي ترى أن هناك حياة ما بعد الموت (حياة أبدية)، تبقى أفضل من العدم.
ولا بد من الإشارة، عرضا، إلى أن الفلسفة بدورها عالجت إشكالية الموت من زاويتها، حيث لا غرابة بالقول إن الموت من الموضوعات ﺍلتي ﺍﺳﺘﺄﺛﺮﺕ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎﻡ الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ، ولربما كانت دافعا أساسيا لوجود الفلسفة. فالغرض من الفلسفة واضح؛ إنها تهيئنا للاستعداد للموت حسب أفلاطون، إذ إن الموت هو نهاية رحلة الحياة (القصيرة)، وفتح الباب لحياة أخرى. ولعل سقراط إلى جانب جوردان برونو وهيباتيا…من بين آخرين، مثالٌ عن الفيلسوف الذي كان على استعداد للموت من أجل فكرة.
التفكير بأن الموت ليس شيئا بالنسبة لنا هو ما يجعل -حسب أبيقور- الحياة ممتعة، والخوف من الموت ليس لأننا نتألم عندما يأتي، فكيف يمكننا أن نتأذى من أشياء لا يمكننا تجربتها حسب قوله، بل لا نعرف ماذا سيحدث لنا بعد أن نموت؟ وهو ما عبر عنه الفيلسوف الوجودي مارتن هيدغر بالقول: إن القلق يأتي بعدم امتلاك معرفة صريحة عن الموت. لماذا نرغب أصلا في العيش؟ هذا هو جوهر السؤال، وقد ادعى الفيلسوف الرواقي سينيكا أنه لا يوجد شيء خادع، ولا شيء خائن، مثل حياة الإنسان؛ إذ لم يكن أحد ليقبلها لولا الجهل، والسعادة هي أن يموت المرء بعد حياة قصيرة ويعود إلى حالته الأصلية.
إجمالا، يمكننا القول إن الموت ظاهرة وجودية مأساوية شغلت الفلسفة والفنون والأدب في النصوص الأولى كلها، وتم التعامل معها دائما على أنها إشكالية تقف ماثلة أمام ضعف الإنسان وعجزه.