رحلة رمضان

إن أيّام رمضان الكريم تجري بسرعة، فَقبل أيام قليلة كنَّا نستعدّ له ونتبارك فيما بيننا ونحن متحمّسين وفرحين بقدومه، وها هي العشر الأوائل قد انتهت، أيام الرحمة التي تتنزّل على عباده المسلمين، وكذلك العشر الثانية بدأت وستجري بنفس الوتيرة، فالفائز من استغلَّها أحسن استغلال فيما يرضي الله سبحانه بالطاعات والعبادات، وهو في أتمِّ استعداد للعشر الأواخر، لينال الأجر والثواب ويكون مِمّن قال فيهم الرسول ﷺ: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” رواه البخاري ومسلم.
فها هو شهرنا الكريم قد تصرّمَت أيّامه المعدودة، وقَاربَ على الرحيل، ولم يبقَ منه سوى أيّام قليلة لكي تنتهي رحلته السنوية، أرأيتم ما أعجله؟! فطوبى لمن أدركه وصامه وقامه وتزوّدَ فيه بالتقوى والذي يعتبر خير الزاد، كما أمرنا الله ورسوله ﷺ.

إنّ شهر رمضان الكريم بأجزائه الثلاثة، يشبه إلى حدّ كبير الفترات العمرية للإنسان، فكما نعرف أنّ حياة الإنسان منذ ولادته إلى حين وفاته، تتكوّن من ثلات فترات متتالية وهي: الطفولة والشباب والشيخوخة.
هذه العشر الأولى تشبه فترة الطفولة حيث يكون العبد في المرحلة الأولى من حياته، تجده نشيطََا ومقبلاََ على الحياة.. فهي مرحلة الدراسة الابتدائية، والمرحلة الأساسية في حياة الإنسان بالاجتهاد والتعلّم وتكوين شخصية الطفل وكله حيوية ونشاط..
التي تُعزّز فيها الصفات النفسيّة للفرد، والميول والآراء، والتي تجعله يكتسب مجموعة من المهارات والخبرات التي تمكنه من العيش والتأقلم مع الحياة، إلى حين بلوغ مرحلة المراهقة والشباب.

ففي العشر الأولى من رمضان، يبدأ كلّ الناس، صغيرهم وكبيرهم بالصيام والالتزام بكلّ الأعمال الصالحة من صلاة الفريضة في المسجد والتراويح وتلاوة القُرآن والتسبيح والتهليل والصدقة وقيام الليل.. كل هذا بحماس كبير وقوة وجهد عظيمين، تراهم فرحين ومتحمسين لاغتنام هذه الفرصة العظيمة التي لها دور كبير في تزكية النفس وتهذيبها، متفائلين وبِنِيَّة بأن يصوموا الشهر كله طاعة للرحمن، وفعلاََ تجد المساجد ممتلئة عن آخرها في أغلب الصلوات، وبالأخص صلاة التراويح والفجر وهذا شيء يبعث عن الفرح والبهجة ولله الحمد.

فما أجمل هذا الشهر العظيم، شهر الخير والإحسان، إذ به نزيد قربََا وصلة بالمعبود الخالق، وصِرْنا حريصين أشدّ الحرص على استغلال أيامه، ففي أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وفي آخره عتق من النار، وذلك استنادََا إلى حديث: “أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار”، ورغم هذا فإن شهر رمضان المبارك كلّه رحمة ومغفرة ويكون لله سبحانه وتعالى عتقاء من النار في كل ليلة.

وكما نعلم أن الوقت يمضي بحُلوّه ومرِّهِ واجتهاده وكسله.. فها هي دخلت علينا العشر الوسطى من رمضان ومضت العشر الأوائل بسرعة، فماذا استفدنا وماذا حقّقنا؟! ترى هل اجتهدنا وتزوّدنا فيها بخير الزاد كما ينبغي لتحقيق المراد؟

إنّ العشر الوسطى من رمضان، والتي تسمى بأيّام المغفرة، ففضلها عظيم على المسلمين، وجب على العبد الصائم أن ينتهز هذه الأيام المباركة في كثرة الدعاء والاستغفار والتقرّب إلى الله عن طريق مضاعفة العبادات والنوافل والصدقات وكل الأعمال الصالحة.
لقد كانت في العشر الوسطى فتوحات وانتصارات عظيمة للمسلمين، نصر الله فيها الإسلام وأهله، وأذلّ فيها أهل الإلحاد والمشركين، وأخزى فيها المنافقين، كما نصر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر، وهو السابع عشر من شهر رمضان وسُمّي بيوم الفرقان، كما جاء في سورة الأنفال.

ولكن للأسف الشديد، هناك فئة كثيرة تراجعت عن بعض العبادات والأعمال الصالحة، فمثلا في البداية كانت المساجد تمتلئ عن أواخرها والكل يتسابق عن الصفوف الأمامية.. بينما الآن، هناك تراجع، وأصبحت الغفلة واللهو، وكأنّ من قام العشر الأوائل، ستكفيه وتجعله مِمّن قامه كاملاََ، وهذا أمر خطير، وجب الإنتباه له، فأيّامه المباركة قصيرة لا تقبل التقصير، كما يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 183 – 184]. إنّ هذا التعبير ملفت للنظر، فأن يصف الله شهرََا كاملاََ بأنّه أيام معدودات، أي أيّام محصيات محدودات قليلات، ثلاثين يومًا، أو تسعة وعشرين يومًا في السنة. لما في ذلك من الإغراء في صيامه وحسن استغلاله لما فيه من أجر عظيم، فهو مجرد أيام تمضي مسرعة، وكذا العمر يمرّ ولا نستشعره، ومنه وجب على كل مسلم أن ينتبه إلى نعمة الوقت التي هو مغبون فيها، ويؤدي حق الله وحق نفسه.. نسأل الله الثبات، وأن يغفر لنا التقصير والتفريط فيما مضى.

فهذه المرحلة تشبه كثيرََا فترة الشباب، حيث يكونُ الإنسان قد أنهى طفولته ومراهقته، وانتقل إلى فترة الشباب والتي تنقسم إلى قسمين: فئة واعية وثابتة على دين الله وتعاليمه، تبدأ بالتفكير بوعي أكثر لمستقبلها وحياتها واستقرارها الاجتماعي والنفسيّ، رغم كل ما تتعرّض له من مشاكل وضغوطات التي تتطلبها الحياة، ويستعد الشاب لمواجهة جميع احتمالات الحياة بحلوها ومرها وسائر متقلباتها ليجعل منه رجلاً كاملاً في عقله ونفسه وجسمه، ومنه يستطيع أن يتحمّل تبعات النهوض بمجتمعه عن جدارة.. ولكن تتغلب عليها بالتوكل على الله والاستعانة به في كل أمور الدنيا والآخرة.. وهي التي قال فيها رسولنا الحبيب ﷺ وشاب نشأ في عبادة الله، دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، مما يعني أنه يجب على الإنسان أن يجمع بين احتياجاته المادية والروحية، لكي لا يطغى جانب على الآخر، فإذا أعطى الشاب لنفسه حقها من المادة والروح فقد وفّى لها حقوقها.

وهناك فئة ثانية وهي من تتهاون وتتغافل عن طريق الحق، فتجد الشاب يميل إلى سلك طرق الغي والضلال، واتباع الشهوات المغريات والملهيات. فهل منكم من يريد أن يضيع مراهقته وشبابه في اللهو واللعب، دون الحصول على شهادة دراسية أو شواهد تخول له الحصول على وظيفة أو إنجاز مشروع ينفعه في حياته المادية كلها؟ فهذا مثله مثل رمضان، فمن أضاعه وتهاون فيه، سيخسر الدنيا والآخرة، والعياذ بالله. فهذا هو الوقت المناسب لكي نحاسب أنفسنا على التقصير والتفريط في الثلثين الأولى، ونراجع حساباتنا، ونجدّد نشاطنا الديني والروحي، لأنه لا زالت هناك فرصة ولو صغيرة يجب استغلالها، لكي نتوب إلى الله تعالى من كل معاصينا والذنوب التي اقترفناها، ونخرج منه أكثر صدقا وصفاء وإخلاصََا إن شاء الله.

ومنه وجب مع دخول العشر الأواسط من رمضان العظيم، أن نحاول جمع شتات قلوبنا، ونركز على الاستغفار والتوبة، ونكثر من الدعاء والابتهال لله عز وجل، كما كنا في العشر الأوائل، واستعدادًا للعشر الأواخر بأعمالنا الصالحة في العشر الأواسط، لنذوق حلاوتهما ويتمّ الله علينا نعمه وفضله، ويجعلنا مِمّن غفر لهم وأعتقهم من النار.

وكما انتهت العشر الأولى من رمضان، وستنتهي العشر الوسط، وتبدأ العشر الأواخر، فأفضل عمل وفعل يقوم به العبد في هذه العشر هو اغتنام جميع الوقت بالطاعات والعبادات ليلاً ونهاراً.. من صلاة الفريضة وقيام الليل وتلاوة القُرآن والدعاء والصدقة، وغيرها من الأعمال الصالحة التي تقربّ إلى الله تعالى. ومن فضل هذه العشر، وجود ليلة القدر في إحدى الليالي الوترية، حيث ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: “تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ”، وهي ليلة خير من ألف شهر. كما أن هذه الأيام كلها عتق من النار، ومنه وجب استغلالها أحسن استغلال، بكل ما تمَّ ذكره سابقا من العبادات والطاعات والإكثار منها والمواظبة عليها، كقيام الليل والصدقة والزكاة والدعاء.
فالدعاء من أكثر العبادات المستحبة دائما وأبدََا، فهو سلاح المؤمن، وبالأخص في شهر رمضان والعشر الأواخر منه، فالدعاء يُمكن أن يُغير القدر خاصّةً عند الإلحاح في الطلب والدعاء في كل لحظة بنفس صافية ويقين بأن الله تعالى سيستجيب في الوقت الذي يراه مناسباً.

وتتمّة للتشبيه، فالعشر الأواخر كفترة الشيخوخة، فيكون العبد الصائم فيها كالشيخ الكبير الذي اقترب أجله وشارف على الرحيل، فإن اجتهد في بداياته وعزّ شبابه وعاش حياة سوّية طيّبة بالقرب من الله عز وجل وامتثل لأوامر الله ورسوله واجتنب نواهيه، أفلح ونجا في الدنيا والآخرة. وإن قصَّر وعاش في غفلة عن أمر الله، ندم ندمََا شديدََا حين يشيخ، فلا يصوم إلا بمشقة، ولا يسجد إلا بجهد، النوافل يصليها جالسََا، وحروف المصحف لآ يراها إلا بصعوبة.

لقد صدق الحافظ ابن رجب الحنبلي حينما قال في كتابه لطائف المعارف:

تنصف الشهر والهفاه وانهدما  *** واختص بالفوز بالجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرا *** مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرم
من فاته الزرع في وقت البدار فما *** تراه يحصد إلا الهم والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته *** في شهره وبحبل الله معتصما

فطوبى لمن أدرك رمضان، واجتهد فيه بالصيام والقيام وصالح الأعمال منذ بداية الشهر، فلما دخلت العشر الأواخر، زاد وضاعف اجتهاده في سائر العبادات والطاعات، كما كان يفعل رسولنا المصطفى ﷺ.

وخلاصة القول، وفي حياتنا كلها على طول شهور السنة، ينبغي علينا جميعََا الاقتداء برسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم فهو الإسوة والقدوة الحسنة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر وذكر اللّه كثيرََا، بالجدّ والاجتهاد في عبادة الله وطاعته، وأن لا نضيّع ساعات هذه الأيام والليالي في الأمور الدنيوية التي لا فائدة منها، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى في السنوات المقبلة ان شاء الله، فالموت هو نازل بكل امرئ إذا جاء أجله، وانتهت رحلته على هذه الحياة الفانية، فحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم.. يندم على تكاسله في بعض العبادات، والوقت الذي ضيعه في مايغضب الله ويبعده عن طريق الحق والجنة.

تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.

1xbet casino siteleri bahis siteleri