ماذا وقع لطفل اليوم؟

689

الناظر لحال طفل اليوم يعتريه أسى جلي جراء ما حل بالناشئة؟ ماذا سنقول لهم غدا حينما سيكبرون؟ من علمهم لغة الدهشة؟ ومن قتل براءتهم النفيسة؟ لِم لَم يعد أطفالنا كأطفال الأمس؟ ولماذا صار الآباء يجدون صعوبة في مقارنة أبنائهم مع أطفال الأمس؟ وهل طفل اليوم أذكى من طفل الأمس أم العكس صحيح، بغض النظر عن تنوع الذكاءات حسب “جاردنر”؟ ومن المسؤول عن جعلهم هكذا؟

الدراسات الحديثة تشير إلى أن الطفل قادر في مختلف مراحله العمرية على الاختيار، فهو من سن الثانية قادر على تفضيل طعام على آخر، وما بين الخامسة والسادسة من عمره قادر على تفضيل لون أو لباس دون آخر، ويكتسب قدرة المفاضلة بين الأنشطة ذات الطابع الاجتماعي ابتداء من السنة الثامنة. إلا أن الطفل بطبيعته المحافظة نوعا ما يميل إلى اختيار ما اعتاد عليه، فالطفل الذي اعتاد على إيقاع تعلمات محددة مسبقا لا يملك سوى أن يختار التعلمات التي تعود عليها، إنه بمعنى آخر لا يملك آفاقا أخرى غير ما تعود عليه. إنه يأتي للمدرسة عن عادة لا عن اختيار، ويجيب طبقا لما تعلمه لا لما يعرفه. إن هذا الواقع يحيلنا إلى ضرورة نقل الطفل من اختيار ما اعتاد عليه إلى اختيار ما يريده كذات مستقلة واعية باختياراتها وهو ما يعني نقل الطفل من الاختيار بالعادة إلى الاختيار الواعي والمسؤول.

إلى هنا هذا ما ينبغي أن يكون. فهل يتم فعلا نقل الطفل إلى عالم الاختيار المسؤول؟ وهل العملية صعبة أم معقدة؟ وهل قابلة للتحقق الكلي أم النسبي؟

إجابة على هذا السؤال نجد أنفسنا مدعوين للقيام بإطلالة على طرق تربية فلذات أكبادنا، وهل الأمر يختلف من عائلة لأخرى؟ وهل الخصائص الأبوية تسهم في هذا الاختلاف التربوي كالثقافة والوعي أم أن الأمر لا يخرج عن دائرة الأقدمية الأبوية والمهارات التربوية أم المسألة حظ وقدر؟ وهل العوامل الوراثية تعفينا من أدوارنا كمربين؟

المتأمل اليوم يرى أن الأمر لا يخرج عن دائرة الإجبار والتغافل، وحتى أستفيض فيهما معا فالإجبار بادٍ من خلال الأوامر التي يسمعها الطفل طول يومه، فلو وضعنا جدولا وصنفنا فيه الأفعال الموجهة للطفل يوميا لوجدنا أغلبها أوامر محضة لا يستطيع الطفل أمامها سوى الامتثال والطاعة ولو على حساب قدراته النفسية والبدنية بل على حساب فطرته أحيانا. وطبعا تدخل عدة عوامل تعين تلك الأوامر على التحقق وتجسيدها في أرض الواقع وبعضها الآخر يعطيها صبغة المثالية والقدسية في إغفال تام للقدرات العقلية للطفل وخصائص نموه مما يصنع لنا “روبوت” يقوده الأمر للحركة أو السكون، وهو في غنى عن الأوامر لاشيء.

وهكذا نعطل وظائفه ونئد قدراته ونشل مهاراته ونلغي تصوراته وتمثلاته، فبأي معنى سيحيا هذا الطفل وسط بيئة شبه معقدة تطلب منه أن يكون ذكيا ليتأقلم على حد تعبير “جون بياجي” وهو فاقد لكل البوصلات التي ستعينه على هذا التأقلم؟

مقالات مرتبطة

أما النوع الثاني وهو التغافل والترك، فهذا صار يغزو مجتمعنا فالطفل منذ نعومة أظافره يرغمونه على الكف عن الضجيج والحركة، من خلال تسليمه هاتفا أو لوحة إلكترونية حتى تُشل حركته ويتم تخديره بشكل قاس، بل حتى أنفاسه لا تكاد تبلغ رئتيه على الوجه الأكمل، علاوة على فقدان مركز الإحساس في الجسم. فلو رُفع من مكان إلى آخر لما أحس بذلك، لأنه استسلم كرها لا طوعا لمفعول التكنولوجيا. متناسين أن الطفل غير الحركي غير طبيعي أيضا. ولنجد أنفسنا فيما بعد أمام جيل من الأطفال له عاهات ما كانت نسبتها عالية من قبل، ولربما كانت مُضمحلة تماما، تشتت انتباه، غياب التركيز، صعوبة النطق، شلل حركي وغير ذلك كثير، بل صرنا نتجنب الخوض في التواصل معهم لأنه يؤلمنا حالهم وأسئلتهم البعيدة عن الواقع وحركاتهم غير المفهومة وكلماتهم المبهمة ونطقهم المتأخر وذهنهم المعاق… نتجنبهم بالتخدير الأصعب حينما لا نلقي لهم بالا ونتركهم يعيشون كما يشاؤون ونرفع أيدينا عنهم استسلاما “افعلوا ما شئتم” ظانين أن ذلك على الأقل سيريحنا نحن. لأنه لم تعد لدينا الطاقة الكافية لمجاراتهم.

والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا صارت صدورنا ضيقة حرجة من الأطفال؟ نعيش معهم بصعوبة، لا نلاعبهم ولا نؤدبهم ولا نصاحبهم حتى. والحال يصعب ويعسر لما تكون التربية ملقاة على كاهل أحد الزوجين وفي الغالب هي الأم لأنها مدرسة إن أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق، ولكم هو مؤسف أن تجد أمهات من رواد عيادات الطب النفسي يبتغين الخروج من اكتئاب سببته لهن المسؤوليات الملقاة على كاهلهن ولعل أبرزها ما أنجبنه من أطفال. وهذا الأمر يسائل الوزارات المسؤولة عن الأسر وما تقدمه للأسر من تكوينات في هذا الشأن، وهل ثمة مرافقة سيكو اجتماعية لحديثي العهد بالزواج وإلى أي حد تتجلى مسؤوليتها إلى جانب الأسر في معالجة ما يلم بالناشئة. خاصة وأنه كلنا لدينا الحق في الإنجاب وإذا أنجبنا وجب علينا أن نربي.

وحتى لا نحيد عن سياق التغافل وما أنجبه، فاستراتيجية التغافل ما هي إلا قنابل مؤجلة لا ندري كم ستكون مخلفاتها وماهية هذه المخلفات. ولعل هذه القنابل قد بدأت تنفجر إذ أضحينا نرى الإقبال على الاستشارات الأسرية وكذا مراكز المرافقة النفسية والتربوية للأطفال كما سبقت الإشارة إليه، فضلا عن الملتمسات والاستفسارات التي تتوالى على مواقع التواصل الاجتماعي داخل المجموعات المغلقة تنتظر حلولا لمشكلات يقبع فيها الآباء ويطلبون الاستشارة ممن سبقوهم في هذه المهمة العسيرة، مهمة التربية.

ولعل كثيرا منهم يرجع بخفي حنين، لانعدام الإجابة. أو يضطر لزيارة الأخصائيين في مجال الطفولة والتربية الذين سيتحفونهم بكم من التوجيهات النظرية التي تنتظر مناخا وزمنا ومكانا مناسبين لتنزيل ذلك أو يعيدون الكرة فيكتفون بالتغافل من جديد مستسلمين لحالهم وحال هذا الجيل، وهم يرون بأم أعينهم الثكلى أن طفل اليوم صار يمجد نفسه ولا يرضى بالقليل من الفرص المتاحة، ولا يتعامل مع المسؤوليات بجدية، ولا يتكيف مع الظروف المحيطة، ويصرخ عالياً إذ باعتقاده أن هذا الأسلوب يمّهد لتلبية رغباته، ويمارس حريات كثيرة بموجب قوانين واتفاقيات وليس بموجب العلاقات الإنسانية الطبيعية في مجتمع متكامل، تلتصق عيناه طول الوقت بشاشات افتراضية، ولا يتنازل للخروج إلى الشارع لاكتشافه، ولا يريد أن يسمع من حوله، وينصت فقط إلى ذاته، طفل اليوم يعاني أمام أعيننا بسبب ما يفرضه عليه العالم المحيط به، وهو مقيد باتباع ما يقدّم إليه، ما يحكم السيطرة على عقله ورغباته وطموحاته ويضعه في قالب ضيق. هذا الطفل المركّب، الذي يضيع الوقت في مجالسة مواقع التواصل في عوالم افتراضية، طفل مكيفات الهواء، الذي يصيبه السعال إذا استنشق ذرة غبار، وتغريه الجولات في الأسواق التجارية المكيفة، ولا تكفيه التجارب البسيطة، لقد صنعنا طفلا اتكاليا يعتقد أنه محور اهتمام هذا العالم.

ما باستطاعتنا إلا أن نبكي على حال طفل اليوم ونتذكر بحرقة العصور الذهبية مع طفل الأمس إذ كان أشبه بعصفور حر طليق، طفل طبيعي ينتمي إلى المحيط على شكل توليفة متناغمة، يتسلّق الأشجار، يقفز فوق السرير ثمّ يسقط، يلعب بالتراب وتتسخ ملابسه، يفكّر لوحده، ويرضيه نور الشمعة لتأدية واجباته، يعتمد على ذاته، ويتعلّم من المحيط، ويخرج إلى الشارع ولا يخاف، أو يفكر بوجبات الطعام السريعة، ويبتكر ألعابه بنفسه، أفقه بلا حدود، وهو مبدع وباحث بامتياز، ويتمتع بقيم المشاركة.

لقد كان طفل الأمس يتفرغ لتلقي المعرفة، والعلم هو شغله الشاغل، فتراه يحضر مجالس الكبار ويتعلّم منهم، يجلس على مائدة الطعام مع الكبار، فضولي ولكن بشكل أنيق، ولا يعاني من القلق أو الاضطرابات، مبادر ويحترم الوقت.

فما الظروف الحقيقية المتضايفة التي عمقت الفجوة بين طفل اليوم وطفل الأمس؟ وهل ثمة فرص لاستدراك ما فاتنا وعلاج ما يمكن علاجه أم أن الأمر عسير بالنظر لماهية “الظاهرة/الموضوع” الذي ينبغي دراسته والمعقد جدا والذي هو الإنسان؟