سحر الفاشينيستا

عزيزي القارئ، تخيل أنك داخل عالم يعرض فيه كل واحد بضاعته، وأنت أمام هذا الزخم الهائل من المعروضات تقف حائرا نداء أي بائع تلبي، مع العلم أن طرق عرض المنتوج تختلف من بائع لآخر. هناك من يتودد إليك بأرقى العبارات حتى يلفت انتباهك، وهناك من يزيف بالعبارات الرنانة منتوجه من أجل جذبك، وآخرون قد يصل بهم الأمر إلى شدك من ذراعك لتلقي نظرة على معروضاتهم المتاحة، أنت أمام هذه العروض المغرية لأي واحد منها ستنجذب أكثر؟ سؤال تستطيع الإجابة عنه وأنت تتخيل الأمر وتجسده في عقلك.

طرق الإغراء تختلف من شخص لآخر، لكن صدقني أن النوع المتوفر على مواقع التواصل الاجتماعي هو الأسوء على الإطلاق؛ أولا لأنه يتبعك كظلك أينما وليت وجهك تجده، وثانيا لأنه تكاثر بشكل مروع، حيث أصبح يشغل حيزا كبيرا في العوالم الافتراضية، وثالثا لأنه يفتك بالقوة القناعية، ويهيج الخلايا النفسية المسؤولة عن حب الذات كما هي، حيث يعبث بالاطمئنان النفسي حد إتلافه.

أطلت بحلتها البهية، وجمالها الآسر الذي يجلب الأنظار ويخطف القلوب، للعابر تبدو ملهمة، بينما للمقيم هي قدوة الجمال الفتان، ومثال الأناقة والثقة؛ الأناقة بطلاتها الفاتنات، والثقة لعرضها شتى الماركات والمنتوجات سواء التجميلية منها والطبيعية. تتحدث بلسان عذب، ونظرات يملؤها الغمز والهمس، تبتسم بدلال، بينما يفوح من حركاتها عطر الغناج، تسحر بكلامها الشجي فيفقد على إثره السامع نفسه وثقته معا. فيبقى بذلك مسلوب الاختيار، فاقد العقل مع حسن الإيثار. حسناء أقبلت فهل هي ملاك أم إنسان؟ لم لست مثلها، أو بالأحرى كيف أغدو مثلها؟

في الطرف المقابل تنهض بشعرها المشعث متوجهة إلى الحمام، تتطلع إلى المرآة في فتور، وتزم شفتيها بينما أصابعها تتحسس البثور وآثارها المحفورة على البشرة. تتوجه نحو هاتفها فتجد كما هائلا من الرسائل والتعليقات التي تغذي ثقتها، وتشغل عنصر الغرور لديها، لتنسى بذلك بشرتها التي تعكر صباحاتها اليومية بعد أن خلعت عنها قناع التجميل وأدواته. تستعد من جديد لجلسة أخرى من التزييف والكذب، ترتدي ملابسها التي كلفت بعرض ماركتها على المتابعين الأوفياء، وتأخذ أدوات التجميل المهداة من طرف ماركة ثانية لعمل إشهار لها هي الأخرى، بعد أن ترتدي هندامها الأنيق وتتزين بشكل يسمح بإخفاء العيوب، تأخذ هاتفها الذكي، أو كاميرا عالية الجودة، لتبدأ جلسة تصويرها، صورة تلو الأخرى، ثم تعديلات، وإضافات، وفوتوشوب، إلى أن تجهز صورتها الدسمة، فتقوم بنشرها على حسابها الخاص دون إغفال وضع إشارة للماركتين المعتمدتين. ثم يبدأ مسلسل المدح والإعجاب، وتفيض شلالات الإطراء لتروي جفاف الثقة، وتسقي ثرى الخداع والغرور.

من هاتفها المتواضع تلج عالم الافتراض من أبوابه الرحبة، من أجل الاطلاع على آخر المستجدات، وبينما تتصفح إحدى المواقع، تجد صورة مليحة لإحداهن. تنظر بعين الإعجاب والتمني،خاطرها يلوم إهمالها، ونفسها تلوم قدرها، بينما الأفكار تجتاح عقلها والتمرد يغذي ذاتها، تخرج من الموقع مخلفة وراءها ثقتها بنفسها، فتهتز على إثر هذا قناعتها ورضاها. تفكر وتفكر إلى أن يتوه تفكيرها في غياهب الواقع، فتعود محملة بالخيبة والتمني معا.

مقالات مرتبطة

بعد عرس التمجيد الذي نالته صورة الأمس، يتم الاستعداد لأداء مقطع يضم أسرار العناية بالبشرة والذي تقوم به الآنسة فاشينيستا كل صباح. مكونات المقطع الرئيسية تضم ما يلي: كاميرا عالية الجودة أو هاتف ذكي يتوفر على تطبيق “سنابشات” -منتوجات كيمياطبيعية كما أحب تسميتها، عبارات مختارات تعبر عن مصداقية المنتوج، وتمدح حسن الخدمة والتعامل- إضافة إلى القليل من تصنع العفوية مع قدر لا بأس به من الميوعة. بهذه المكونات يكون خليط وصفة الجمال السحرية جاهزا. بعدها نمر إلى مرحلة التعديل لإضافة لمسة الجمال الأخيرة، ومع عنوان جذاب يرافق المقطع من أجل حصد مشاهدات مبهرة على القناة. بالنسبة لأصحاب العرض الشهري الخاص بتشغيل مواقع التواصل الاجتماعي، فسيتم تنزيل المقطع في جل الحسابات الرسمية الخاصة بالآنسة فاشينيستا، وهذا من أجل إرضاء المتابعين أجمعين. وبعد الانتهاء من كل جلسة لا بد من وعد بتقديم الجديد في أقرب فرصة، بل أن وصفة المقطع المقبل تكون مجهزة المكونات تنتظر التطبيق وحسب. وهكذا دواليك…

تقف بركن في الحافلة المكتظة بالأرواح المتعبة، والأجساد المنهكة من تعب العمل ومرارة لقمة العيش، بهندامها البسيط وملامحها الباهتة بفعل التعب وقسوة العيش، تأخذ هاتفها من الحقيبة، عساه يخفف عنها مشقة الوقوف وطول الطريق، تتصفح المواقع فيلفتها المقطع المنشود، تنظر لصاحبته وتنظر لنفسها في زجاج النافذة، تقارن نفسها معها وداخلها يردد في قهر “شتان بين وردة ذابلة وأخرى متفتحة بهية”. يمر الوقت بطيئا من هول التفكير والتقليل من الذات، وما إن تصل للمنزل حتى يكون الأخذ والعطاء مع نفسها أنهك روحها، وأتعب وجدانها، بهذا يكون تزحزح رضاها، واستنزفت ثقتها، وحل التذمر محلهما، تحاول اتباع نصائح الفاشينيستا، لكن راتبها الشهري لا يكفي لسد حاجياتها وأسرتها، فتعود خائبة محملة بالعجز والانكسار.

تختلف الفاشينيستات ويظل المحتوى واحدا يصب في نهر الجمال والموضة، بوجهيهما المشرق والمظلم، المشرق الذي يقيد عنصري البساطة والظهور بالصورة الطبيعية لدى الفاشينيستا؛ حيث يصبحان هوسا قد يصل مؤداه إلى تغيير الملامح الأصلية، وعمل تعديلات تبدأ طفيفة إلى أن يتم الاعتياد عليها لتصير بذلك أمرا روتنيا. والمظلم الذي يقوض حياة البسطاء من الناس، أولئك الذين تخدعهم المظاهر وتحجب عقولهم عن رؤية الحقائق المخفاة تحت قناع التجميل والأضواء، فتعمى عيونهم عن النظر إلى ما حباهم الله به من خصال وصفات لا مجمل لها. يصل الأمر حد التقليد الأعمى لمن تسمح لهم إمكانياتهم المادية بذلك، بينما قد يحدث الأمر ضررا نفسيا لمن لا تسمح لهم إمكانياتهم المادية بذلك، فينقسم الجانب المظلم إثر هذا إلى نصفين؛ الأول تابع مخلص يقلد التفاصيل الكبيرة والصغيرة، فيطمس بذلك شخصيته الأصلية ويتبنى أخرى مزيفة، والثاني يحلم أن تسمح له إمكانياته يوما ليغدو تابعا مخلصا لقدوة الجمال وعنوان الموضة.

إن التزييف الذي تحمله مواقع التواصل الاجتماعي لا حصر له، يغري بعضا، ويتحكم في بعض، لينسي الكثير أن الجمال يكمن في قلوبهم الخيرة، وأرواحهم الأطيب من المسك، في عقولهم النيرة، وأيديهم السخية، في عيونهم المتلألئة، وألسنتهم الحلوة بالعبارات الصادقة، في عفويتهم البريئة، وتضحياتهم السرمدية، في ابتسامتهم العذبة، وهندامهم البسيط. الجمال لا يحتاج لأدوات وماركات، بل يحتاج إلى نفس تتقبل اختلافها عن الآخرين، وإلى قلوب تملؤها القناعة واليقين، إلى ذوات تثق بقدرة الخالق الذي خلق عباده فأحسن صورهم، إلى التصالح مع الذات ومع الآخرين، إلى رجم الغرور ووأد الكبر وإن كان بمثقال ذرة، يحتاج إلى قذف الكذب بالحق والإخلاص، وترميم شتات النفس بالثقة والرضى، إلى أن نكون نحن بعيوبنا وسلبياتنا، ولا نتبنى صفات، وأقوال، وأفعال وملامح لا تمثلنا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri