ذاك البعيد السعيد

كحلم تدلى في قاع صفصف من الغموض، تلاحقه أطياف الآمال علها تكون، إن رسمته بريش ناعم تسحرك صورته البهية، وإن وخزته بشوك غادر ترهبك إطلالته الغيبية. هو الحاضر إن زخرفته الأماني الباسقات في سماء المناجاة شموخا، والماضي المرصع بدرر التعلم والنضج نضوخا، هو الحاضر المنتظر يلهم القلوب حبا، ويثري العقول نبوغا، ويبعث في الجسد نشوة ترتقي بها النفس طموحا، والضمير وضوحا، والعطاء جموحا، والحياة نضوحا.

يلوح من بعيد بيدين مبسوطتين منشرحتين، فنختطف حفاوته بأنس وسلام آمنين مكر الأيام وتقلب الصحاب، يصطحبنا جولة في أزقته الفضفاضة المشرقة، ونتفتل مطمئنين في خيالاتنا الساكنة، يغدق علينا الوهم أطنانا من السلام، وتسكرنا لثمة يختطفها من ثغرنا الحالم لحظة صفاء، تارة نخاله فارس أحلام الحاضر المنتظر، وتارة يضيق بنا سقف الحاضر المحتضر فنبصره نعشا؛ ينقل جثمان أحلامنا فيواريها التراب الأسود لترقد في غيهب النسيان الأبدي. أتراه يعلم كم نحن للحظاته ونئن بانتظاره!!

يطول بنا الدهر تعبا، ولا نفتأ نذكره تبعا، يراودنا الحماس بغتة، وتنطفئ جذوته خلسة، نتمخض في ارتياب عادم، وترقب دائم، نهرع محلقين لاحتوائه بروح أنهكتها الضغوط، وتكالبت عليها الظروف، وتكبدت مشقة الانتظار علها تظفر بالانتصار.
مستقبل؛ ميمه مناجاة، وسينه سهر سنوات، تاؤه ترقب وتمنٍّ، وقافه قرح عابر وقادم غابر، باؤه بهجة منتظرة، ولامه لوعة متوقدة بالتفاؤل.

مقالات مرتبطة

إن انتظار المستقبل، ورسمه بخطوط واهية من المثالية الوردية، أشبه ما يكون بانتظار العدم يرسمه الوهم، نغرق في دوامة التخيل المحسوس لما نريده أن يغدو ذات يوم ملموسا، فيتغيب عن ذهننا أن الأساس مكمنه المساس؛ نشرحه على أرضية الحاضر الجرداء، ونمسد أطرافه المشعثة، نروي ثراه بالتخطيط الفعال المنطقي، ونسقط أطراف ماضيه المكبلة بقيود آسرة لتنال حريتها في سماء النسيان، نتخذ من محطاته المعثرات قنطرة تخول لنا المضي قدما بثبات نحو أفق ممتد، إن الله جعل للنفوس المسخرات للعمل قوة، أصلها ثابت وفرعها نابت، فمن قال حي على العمل، يجيبه قلبه حي على الأمل، يلبى نداؤه، ويربى فؤاده، وتزهر بساتينه زهرا وعملا. فلا قيمة لأمل لا يعقبه عمل، ولا خير في عمل لم يسبقه أمل.

ذرونا نشمر عن سواعدنا بجد وإيخاء، ونسمو في العلياء بإيفاء، نخضب طموحاتنا، وندثر إخفاقاتنا بإيحاء، نغمز للبعيد السعيد بأنفة واجتهاد، ونهمس في أذن القريب العتيد بعزة وامتهاد، نفتح أبوابنا للقادم المشرق فتلج الأنوار الثنايا المظلمات، وتتفتح أوراق الأيام الباسقات، وتنطوي صفحة الليالي الحالكات، ومثل النجوم المسخرات، والجبال الشامخات، وعرض السماوات، تنبلج أسارير الصباحات المشرقات، وتثمر البذور ثمرات، وتغرد العصافير سيمفونيات، بإطلالة اللحظات المنتظرات.

دعونا نستبق إلى باب النجاح، فإن قد صبرنا من قبل قد أخفقنا وفشلنا ولم نخلص نية في العمل، وإن قد من دبر فقد عملنا واجتهدنا وأخلصنا النية في القول قبل العمل، وإذا ما ألفينا المستقبل خلف الباب، شهد شاهد الجد والكد معنا، وقلنا إن الماضي راودنا عن نفسه فاستعففنا، وتآمر مع الحاضر فتنزهنا، ولم نخن اليد التي مدت إلينا حين تعثرنا، وإن سئل عن جزاء من أراد به شرا أجاب: إنه من كيدهن؛ كيد السبع الموبقات؛ فقر، جهل، خضوع، فشل، رضوخ، سفاهة، وضياع تحجبهن أطلال الهفوات، ويزينهن حب الشهوات، ويخضعن النفس في مخادعهن للملذات، فيثمل العقل، ويتغيب العزم، ويضيع الحزم، ولا يبقى في القلب مع توالي الخضوع همس، إلا من رحم الله فؤاده فأحياه وبصره، وأيقظ ضميره وعدله، وأوهج عقله ودعمه، فذاك وإن أزجي في سجن ماضيه ظلما وانكسارا، وعذبه حاضره أرقا وانتقاما، يأتيه مستقبله حلما واستبشارا فيعيده معززا، ويذيقه بعد المر شهدا، يكون لروحه بلسما، ولحياته مأمنا، فيزهو مقالا، ويسمو مقاما.

1xbet casino siteleri bahis siteleri