قراءة في رواية مسغبة لأيمن العتوم

في القرن السادس للهجرة حيثُ كانت مصرَ بِكرا فاتنة، جذابةٌ متأنّقة، وِجهةُ المُتعلّمينَ الطّموحينَ، مسقط رأسِ الحياةِ والحضارةِ، ضفافُ النّيلِ تُغدِقُ بِخيراتها، وتزخرُ الموانئُ بسُفُنٍ تجاريّةٍ تقبلُ من كلّ حدبٍ وصوبٍ لأمّ الدّنيا تبتغِ رِضاها وبَركتها، وكأنّها الأمُّ الرّوحيّة للبُلدانِ أجمعَ، وحُضنها يسعُ العبادَ غنيّ وفقيرٌ، عالمٌ وتلميذ.

عبد اللطيف البغداديّ، بغداديٌّ قدِمَ من بلادهِ لمصرَ شغفاً بالعلمِ، وحبّاً في التّعلّمِ، ورغبةً ألحّتْ في نفسهِ فطغتْ على مناماتهِ ليجدَ نفسهُ وقد عزمَ الرّحال إلى مصرَ. يحكي عبد اللطيف أيّامَ الرّغدِ بمِصرَ بعد قدومهِ، واللحظاتِ المشرقاتِ اللاتي قضى فيهنّ أمتعَ أيّامهِ قبل أن تنزلَ المصائبُ بهذهِ البلادِ، وصدقَ من قال أن المصائبَ حين تأتي، لا تأتي فُرادى.

أقصى اليمينِ وأقصى الشّمال هو ما عاشتهُ مصرَ؛ من النّورِ إلى الظّلماتِ، ومنَ الغنى الفاحشِ، إلى الفقرِ المُعوزِ، عوضَ الزّهورِ، والثّمارِ، وجريانُ الأنهارِ، والسّلامةِ وكثرةِ الخيراتِ، حلَّ الجفافُ، والجرادُ، والضّفادعُ، والطّاعونُ وآكلي لحومِ البشرِ! هل تخيلتَ يوماً أن يصلَ حدّ الجوعِ إلى أن تأكلَ الأمّ رضيعها، والزّوجةُ زوجها، والأخُ أخاهُ، والجارُ جيرانهُ؟

إنّ هذا لأمرٌ عُجابٌ لكنّهُ حقيقةٌ عاشتها مصرَ في القرنِ السادس للهجرةِ. وهذا راجعٌ إلى كثرةِ الوباءاتِ، وقلّة الكفاءاتِ في الحزمِ عندَ اشتِدادِ البلاءاتِ… يحكي عبد اللطيف عن كل ما عايشته مصرَ خلال الفترة الآنف ذكرها، وعمّا حلّ بأهلها من نصبٍ ووصبٍ وهمّ وحزنٍ ومجاعةٍ وجهلٍ أردوهم فاقدينَ صوابهمُ، مفتقدينَ عقولهم، حلّتْ بهمُ الكرباتُ فلمْ تنفع معهم موعظاتٌ أو توبيخات، كلّ يجري مهرولا خلف غريزته وشهوته، فاقداً آدميّتهُ وإنسانيّتهُ.

إنّ ما يُحكى تُحبسُ له الأنفاسُ، وتنفطرُ له القلوبُ، فليسَ ما يُروى محض خيالِ قلمِ، بل أنّهُ واقعٌ عاشهٌ أهلنا في زمنٍ مضى وقد يتكرّرُ. ليسَ رواية للمُتعةِ بل أنها حكايةٌ للعِبرةِ خلّدها البغداديُّ في مخطوطةٍ، وأيّدهُ على صدقِ ما حكى خير رجالِ الأمةِ في زمنهِ والزمن الذي تلاهُ، لتقرأهُ أنت وأنا في القرنِ الخامس عشرة للهجرة، بفضلِ الكاتبِ الفذّ الأريبِ أيمن العتوم.

إضافةً لما سبقَ ذكره، نجدُ أنّ ما رواهُ عبد اللطيفِ، لم يقتصرُ فيه على جانبِ الشرّ في الإنسان إذا ما غُيّبَ عقلهُ، أو فُقِد لبلاءٍ أو وباءٍ، بل يسلّطُ الضّوءَ كذلكَ على جانبِ الخيرِ الذي لا ينقطعُ منهُ رجاءٌ، ولا ينطفئُ نورهُ وإن خفتَ ضياؤهُ، ففي البلاءِ تُعرفُ معادنُ النّفوس، فإمّا أن يطغى أصلها، أو يندثرَ صفاؤها، وبين الاِثنينِ تضيعٌ نفسٌ وتُفقدُ أرواحٌ. إلاّ أنّ الخيرَ طاغٍ وإن قلّ، والشرّ مندثر وإن عمّ.

ومهما عظُمَ البلاءُ وطالَ فإنّ أمدهُ منقضٍ حتماَ، ورحمةُ الله تنزلُ على الأفئدةِ قطراتِ تحفرُ أعماقها لتطمئنّ وتلينَ، فالغسقُ إنِ اشتدَّ يؤذّن باقترابِ الفجرِ، والمصائبُ إذا توالتْ وتفاقمتْ وأرهقتِ الرّوحَ والنفس إلا وكانَ موعدُ رفعِها قريبٌ يلوّحُ في الأفقِ.

تعودُ الحياةُ للأرضِ القِفارِ، والجريانُ للأنهارِ، وتتعافى الأجسادُ بعدَ سقمٍ، ويقضي الله أمراً كانَ مفعولاً، فتشرقُ الشّمسُ مُكنّسةً بقايا الأمسِ، ولا يهنأ المُرتحِلُ البعيدُ عن أرضهِ، ولا تنطفئ جذوة الشوق إلا بعدَ تذوّقِ حرارةِ اللقاءِ، فبعدَ أن تماثلَت مصرَ للشفاءِ، وبدأتْ تُجدّدُ العزمَ للنّهوضِ من سقمٍ نخرَ عظامها، وأبادَ شعبها، يشُدّ عبد اللطيف رحاله إلى موطنه بغدادَ، علّهُ يتعافى من هولِ ما رآهُ وعايشهُ، فشيب رأسه، وأنهكَ جسدهُ، إلا أنّ المقاديرُ لا تجري إلا كما يشاء الله، فلم يطأ تربةَ بغدادَ إلا وقد انطفأ نورُ حياتهِ، وفاضتْ روحهُ إلى بارئها نقيّةً، صفيّةً، غسلها البلاءُ والوباءُ وكثرةُ الأهوالِ.

1xbet casino siteleri bahis siteleri