معنى أن تكون رساليا

كما لا يخفى على أحد أن وجود الإنسان على كويكب اسمه الأرض الذي يسبح داخل مجرة واسعة وَسَمَها علماء الفلك بدرب التبانة لم يكن عشوائيا، بل وجدنا هنا لغاية وهدف، لهذا كلفنا الخالق بمهمة استخلافية عظيمة؛ حيث قال الباري سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، إضافة إلى هذا فإن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي كرمه الله تعالى ورفع من قيمته، وهذا ما أشار إليه القرآن في عدة مواضع قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، فإذا علمنا أن هذا الإنسان المُكرم المكلف بقيام بمهمة استخلافية عظيمة لم يوجد عبثا أو عن طريق الصدفة في هذه الحياة، فلابد من أن تكون له رسالة واضحة المعالم يسعى إلى توصيلها للخلق، وهنا نتساءل ما هي أهم مقومات الشخص الرسالي؟ وكيف يكون الإنسان رساليا في حياته؟
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه كما قرر ذلك العلامة ابن خلدون، وإن كان كذلك فهو يحتاج إلى الآخرين وهم يحتاجون إليه، فهو كائن يستحيل أن يعيش بمفرده في غابة منعزلة عن البشر، كما أنه كائن أخلاقي عقلاني حياته محكومة بقوانين مطردة يخضع لها الغني والفقير، الرفيع والوضيع، فمن هذا المنطلق يكون الإنسان الغائي هو الذي يحمل رسالة في الحياة، فلا معنى للحياة وأنت تنهض كل صباح وتمارس نفس الروتين بدون أي هدف أو غاية محددة تعيش من أجلها.
يمكننا أن نقول: إن مفهوم الرسالية يشكل لبنة أساسية في الحقل الدلالي للأشخاص المؤثرين على مر التاريخ بدءا بالأنبياء والرسل مرورا بالفلاسفة والعلماء والمخترعين، هؤلاء كلهم كانت لهم رسالة من أجلها كافحوا ونافحوا، وبوجود هذا البعد الرسالي استطاعوا أن يقدموا للإنسانية منافع عظيمة وخدمات جليلة بقي أثرها إلى يوم الناس هذا.
لقد كانت رسالة الأنبياء عليهم السلام هي اجتثات الشرك وتثبيت التوحيد، ونقل الإنسان من طور العبودية للمخلوق إلى طور العبودية للخالق، قال الباري عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقد جاء النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلى المجتمع الجاهلي وقام بتغيير جذري لمنظومته الفكرية والعقدية والقيمية، وبهذا التغيير الذي أحدثه فيهم استطاعوا أن ينشئوا حضارة باهرة يعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء.
مقالات مرتبطة
كلما كان هذا البعد الرسالي حاضرا في قاموس الإنسان كلما كان عطاؤه أكبر ولمجهوداته معنى، أما حينما يغيب هذا البعد عن الإنسان فإنه يتقوقع على نفسه، ولا يبحث إلا عن مصلحته الشخصية القاصرة ويوظف الطرق الميكيافيلية في تعامله مع الآخرين، كما أنه يقع في الخلط بين الوسائل والغايات، فيرى الغايات وسائل ويرى الوسائل غايات، وهذه الشخصية اللارسالية -إن صح التعبير- تنتج لنا عاهات مجتمعية تساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تعزيز حدة التخلف وإقبار الإبداعية.
يمكن أن نجمل أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في الإنسان حتى نطلق عليه لفظ “الرسالية” فيما يلي:
  • الشخص الرسالي يكون نفعه متعديا لغيره، فلا يكون متمركزا حول ذاته متشبعا بالأنانية والفردانية، عملا بالحديث النبوي الشريف: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
  • الإنفتاح: وهذا أمر مهم جدا لدى الإنسان الرسالي، وذلك أن الانغلاق والجمود يجعل الإنسان يعتقد أن العالم هو قريته التي يعيش فيها أو طائفته التي ينتمي إليها، لذا ففعل التواصل هو آلية أساسية للشخص الرسالي ولا يمكن تحقيق هذا التواصل بالانغلاق.
  • الشورى: فلا يكون الإنسان الرسالي مستبدا في رأيه، دوغمائيا في فكره، بل يعمل وفق مبدأ “وشاورهم في الأمر” في تسيير شؤونه وتدبير أعماله.
  • الأخلاق: البعد الأخلاقي جانب مهم في تكوين الشخصية الرسالية، فإنسان بلا أخلاق ينحط إلى درك البهيمية، “إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا” كما قال أحمد شوقي، وقد جاءت الرسالة الإسلامية مركزة على هذا الجانب بقوة باعتباره أحد الأعمدة التي يبنى عليها العمران، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
  • الإتقان: يعمل الإنسان الرسالي على إتقان عمله أيا كان، فلا يتهاون فيه أو يتهرب من إنجازه، بل ينجزه على أكمل وجه ممكن ببذل قصارى جهده، وهذا المفهوم فقهه الغرب وهو أحد ركائز تقدمهم، في حين أن المسلمين تخلفوا عنه مع أن الحكمة النبوية نصت على ذلك: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه.”
  • -الجمع بين القراءتين: قراءة الكون المنظور والكتاب المسطور، فالرسالي لا يقف عند حدود الماديات ويغرق فيها، كما أنه لا يكون كهنوتيا يعيش خارج التاريخ ويتبنى موقف الرفض لكل جديد، بل يعمل لآخرته كما يعمل لدنياه، ويسعى في نشر المعرفة والوعي ونبذ الخرافة والجهل.
  • -الإصلاح: الشخصية الرسالية شخصية إصلاحية، تهدف إلى إصلاح ما فسد سواء في الفعل أو المعتقد أو السلوك، وهذه من وظائف الرسل عليهم السلام، كما جاء على لسان شعيب عليه السلام: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).
  • -الانسجام الذاتي : فأي إنسان تجده ناجحا في عمله أو دراسته أو في حياته بشكل عام، اعلم أنه أفلح في تحقيق التطابق بين ما يحبه وما يصنعه؛ لأن الإبداع يأتي من بوتقة حب شيء والميول إليه، فكلما كان الإنسان منسجما مع ما يفعله مستمتعا به كانت فاعليته أكبر وإنتاجه أرفع، وهذه صفة من أهم صفات الإنسان الرسالي.
إن تحقيق مفهوم الرسالية لدى الإنسان كفيل ببعث الروح في جسد الأمة المليء بالجروح والانكسارات، وهذا يحتاج إلى أن يكون الفرد حاملا الهم لحال أسرته أولا ودينه ووطنه ثانيا وأمته ثالثا، وبهذا الضمير الحي والقلب المستنير بنور الإيمان نستطيع أن نترك بصمتنا في هذه الحياة.
1xbet casino siteleri bahis siteleri