قدرة التقبل

كثيرة هي الأشياء التي يراها المرء ولا تعجبه؛ لكونها لا تتوافق مع عقيدة يؤمن بها أو فكرة يناصرها أو أيديولوجية ينافح عنها. إن اختلافنا جزء من الطبيعة البشرية، فقد خلقنا الله سبحانه متنوعين تنوعا مبهرًا لا يقبل النمطية ولا يعترف بالآحادية، وهذا هو الأصل فينا المتوافق مع فطرتنا والمنسجم مع إنسانيتنا.

كيف ترى نفسك؟ كل واحد منا يضع صورة مثالية عن نفسه، ويتخيل ذاته مركزًا للعالم ومحورًا للكون، فيسعى إلى إرضاء آناه بشتى السبل والوسائل، متجاوزًا عيوبه ونواقصه ومبرزًا حسناته وفضائله، وفي ذلك يقول المفكر العراقي علي الوردي: الإنسان مجبول على أن ينسى مساوئه ويتذكر محاسنه تذكرا لا يخلو من مبالغة. غير أن هذه النفس ما تفتأ تبرز عيوبها وتلفظ نواقصها؛ ما يجعلها ذاتا ناقصة في مقابل المثالية المفرطة التي تقبع في أذهاننا، فلا يبرح الإنسان مكانه حتى يُصدم بواقعه المخالف لمخيلته وتصوره.

وإنه من الطبيعي أن يمتلئ المرء بالعيوب وأن تكون له نواقص، فهذا ما يدل على أنه في مصاف البشر لا الملائكة، فكونه يخطأ يدل على أنه يتعلم، وكونه مذنبا يحيل إلى سعيه نحو التوبة، وكونه مقصرا يشير إلى حاجته للاجتهاد والمثابرة.

وفي الجهة المقابلة هناك صنف من الناس يحقر نفسه، ولا يرى لها أي ميزة تمتاز بها ولا موهبة يتفرد بها، وهؤلاء الصنف من الناس يكون لهم تقدير متدن لذواتهم، فيضخمون عيوبها ويركزون على نواقصها، متناسين حسناتها وفضائلها تناسيا فظيعا، مما يجعلهم مكتئبين غير مبالين بإشراقات الحياة وملذاتها.

إن النظرة الوسطية تدفعك إلى تقبل ذاتك كما هي، فأنت لست مميزا لا مثيل لك، ولست فاشلا لحد الموت، فكل واحد منا له مميزاته وعيوبه، فضائله ورذائله التي تجعله إنسانا يصيب في فكرة ويخطأ في أخرى، ويُحسن في تصرف ويسيء في آخر. وهذا التفكير الواقعي العملي هو الوقود الذي يحرك آلية التقبل في نفوسنا، ويجعلنا نتقبل ذواتنا كما هي بكل إيجابياتها وسلبياتها، وبالتالي يدفعنا هذا كذلك إلى تقبل اختلاف الآخرين عنا.

إن رفض الاختلاف يحيل إلى رفض الذات وضعف التقبل عند المرء، فالرافض للاختلاف والتنوع يريد أن يصبغ المختلف عنه بلونه وأن يلبسه عيوبه ويلزمه بأفكاره.

لماذا التقبل؟ إن التقبل يمنحك الطمأنينة النفسية، فعندما نتقبل أنفسنا بكل ما فيها من مزايا وعيوب نكون قادرين على اختلاق السلام الداخلي، مما يعزز الاتزان النفسي والتوازن العقلي. ويمنحك التقبل كذلك صدرًا رحبا من خلاله تقبل المختلف عنك، مما يجعل التعامل مع الآخرين أكثر ودا وإيجابية. ولا يعني التقبل أن نأخذ كل ما عند الآخرين من أفكار سواء كانت سليمة أو فاسدة، فهذا نوع من أنواع الخضوع السلبي المذموم، بل يعني التقبل ألا تنزعج من فكرة تخالف فكرتك وأن تناقشها بكل أريحية، مُرحبا بالتنوع وساعيا إلى الاستفادة والإفادة. والتقبل يجعل حياتك أكثر انسجاما مع واقعك، فهو ينتقل بتفكيرك من المثالية إلى الواقعية، ويجعلك تقدر الأشياء حولك على حقيقتها، وينتقل بك من التشدد والغلو إلى الوسطية والاعتدال، وبهذا يغوص المرء من السطح إلى العمق.

وفي المقابل؛ يجعلك الرفض إنسانا سلبيا لا يقبل ذاته ويصطدم مع الغير اصطداما عنيفا، فيتهرب من واقعه ويتنكر لذاته ويتنصل من مسؤولياته، مما يجعله غارقا في السلبية مغرقا في السوداوية. لا يمكن لأي منا أن يصل إلى درجة الرضا عن الحياة من دون تقبل، فهذا الأخير هو المفتاح المناسب الذي يجعلك تلج باب الحياة، فأن تقبل شكلك ولونك وطولك وظروفك وفكرك كل ما لديك؛ هو أول خطوة للمضي في معارج الحياة والصمود أمام تحدياتها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri