تنهيدة 

ممتنة لتلك الفترة التي أصاب فيها الخريف حياتي.. محطة لامعة وفي الآن ذاته حزمة مليئة بالمآسي والآلام… حين تساقطت كل أوراقي كأن العالم تساقط على كتفي، حين آوى لحن الريح الشارد صيوان أذني كأنها أصداء انهياري، حين كان ضميري أسيرا لكوابيس الليل الظالم القاهر، وكأني مسافرة تائهة جوف عوالم الأسر يكويها أنين ضميرها فلا تجد لكيانها صاغيا. وكأن العالم بأسره صار أخرسا ثم لا يعلو سوى صوت صاخب زوايا رأسي بيد أن منطقي عاجز عن التفوه فيزج بي وسط أزقة الصمت المهجورة. فهل كانت طقوس الخريف صاقعة حقا حتى أضحيت غريبة يحاصرني الخلاء أينما حللت؟ 

أستحضر حين تغيرت عن عاداتي، فلم أعد لا تلك الناضجة العاقلة المحبة لصحف الصباح وروايات الأساطير، ولا تلك الصاغية الراقصة على ترانيم ألحان الفن الجميل والطرب الأصيل، ولا تلك التمراحة المخبولة المستمتعة بأرجوحة الشرفة وقطرات المطر. آه على أريج تلك القطرات الممزوجة بنفحة التراب حتى أنني لم أعد أحتمل طيبها فرائحتها كفيلة بعصفي نحو سماء تكسوها عواصف الحنين والاشتياق، تزينها سحب تتخللها وجوه غائبة لا زال رحيق همساتها يعبر آذاني ولوعتها تعمر فؤادي. فكم كان عمر غفوتي وعمق انهياري حتى استيقظ جزء مني لا يشبهني قط؟

أذكر حين انتظرتك مطولا ولم تزرني، لعنتك بكل قواي، صبيت كل غضبي على ذكرياتنا وصورنا ثم حذفت ما يذكرني بك واحدا تلو الآخر؛ افتتحت حربي بوجهك بعدما تأكدت أنني راهنت بكل ما أملك على هيامك وسقيتك بأغلى حبري ونقشت اسمك على ورقتي بل كتابي الذي ضنى العياء أناملي وأنا أخطه كلمة بكلمة أملا في أن تنير ملامحك عدد صفحاتي. لكن هيهات، فقد اختصرت مكدودي وإرهاقي في خاتمة لم تتكبد عناءها قط، كسرت معها أصابعي وقلبي وأفلتت قبضتي وكأني لم أكن لك شيئا بعد أن غصت في أرضك الخصبة والجرداء، ضربتني أمواجك الهادئة والفظة، أمضيت أيامك المشرقة والحالكة…

اكتفيت بآهاتي وعانقت ما مكث من رحيق أشواقي فقررت المضي قدما وأهجر ذكرياتي كما هجرتها أنت فما إن أطوي صفحة حتى أستنشق عبيرك المتأهب في طيات كل صفحة وخيالك المطفو على رياح الحقل الأسود يا حقبة الوهم والخيال… وهنا قررت وكان قراري أعظم أن أحرق الكتاب كله رغم أن فزعي كان أسمى كونه يحمل ما جاهدت على بنائه . فلا أدري إن كنت أنا المهزومة أمام التجاوز أم أنت الصنديد أمام الخيانة والتخلي؟

اختبأت داخلا خوفا من ذاك الجو العاصف الذي كان يخيم آنذاك حتى سجنت نفسي فتسللني الشجن شيئا فشيئا وتعششني ثم قادني نحو الإحباط. جريمة ارتكبتها في حق نفسي حيث أن كل شيء كان قاتلا لكنني لم أمت فيخطر ببالي جبران خليل جبران عندما قال: “أصابت الرصاصة قلبي لم أمت … مت لما رأيت مطلقها.” ثم أستحضر قصة اغتيال القيصر يوليوس الذي لم يمت بطعنات المتآمرين بل أودت بحياته طعنة تلقاها من صديقه المقرب الذي كان مترقبا مساعدته؛ حينها تلفظ بآخر جملته التي اشتهرت على نطاق واسع ألا وهي (حتى أنت يا بروتس) خيانة أنهت حياته.

مقالات مرتبطة

ياما تباهيت بصداقات شيدتها حلقة بحلقة بكل متانة كأنها سكة حديد القطار وفجأة بدون مقدمات أقف تائهة مهمومة أمام ناظري ذرائع كاذبة جارحة فأصرخ حد الانتشاء والهذيان وأعود وأتساءل أيها الخائن أكنت صديقا أم عدوا؟ أ كنت أستحق رصاصتك التي وعدتني أنك لن تطلقها وستحميني بها من العالم المليء بالوحوش؟

كم من قصة مأساة أضحت قصة نحاج وأن اليد التي أفلتتك والأمر الذي جفاك النوم من أجله لم يكونا ليستحقا كل تلك المثابرة، فلا تغرك تلك الأرواق المتساقطة فهي زائدة غير صالحة زالت لحماية البقية المزهرة ولو كانت خيرا لبقت، ولا يغرك ذاك الجو المتقلب فأنا ممتنة لعواصفه الهوجاء فلولاها لما تمكنت من الانفكاك عن ذاك الفزع الذي كان يلاحقني وتلك الشكوك التي كانت تغرز قلبي حتى سالت دماء من ثقبه حاملة ذكريات كنت عبدتها، دماء دفعت ثمنها غاليا ولكنها استحقت التخلي عنها.

وأنت أيها العشيق تركت لك مواربة في الظلام، عزائي لك، لقد انطفأت في ذاكرتي، لم تعد لامعا، ستظل مجرد حروف كتبتها خلال أيام لم أجد فيها غير الكتابة ملجأ…وقد يمنحني القدر فرصة لقاءك لأعلمك حينها أن العشق الصادق لا يعرف القواعد والقوانين بل يكسرها، فلا تختبأ وتختلق أعذارا مخادعة فهو حي ما دام أساسه صلبا خاليا من كل افتراء وضلال. أما عن التضحية والانتظار فقد أصبحت معجبة مولوعة بمبدأ القطار لا ينتظر من لا ينتظره.. وإلى خائني، بين أول ثقب دخول رصاصة وآخر واحد لمخرجها تأكد أن الوطن والموطن تغيرا واجزم بأنه ليس لأي حي وطن.

مقعد هاته المحطة مكل زجر عن كل مخلوق؛ فيه تتلذذ أصعب أنواع العذاب ومقاومة النفس… جزء منك يشتهي البوح، يتغلغل جوف رغبة طاغية وشدة احتياج في البكاء وجزء آخر يطغاه الكبرياء وعزة النفس فتتعثر في عذابك المرير، وأحيانا كل ما تكون بحاجة إليه هو الاستماع إلى كلمة مخلصة صادقة كفيلة بإحياء بصيص أمل لسقي عطش صحرائك القاحلة، فأتمنى أن تكون كلمة من كلماتي المتواضعة قد لمست مهجتك.

فصل رائع أنا بصدد خوض مغامراته، أستحق فعلا صمودي، لن أكذب وأقول إنه كان سهلا فلقد استنزف معه طاقتي لكنه في المقابل استحق المجازفة. وقائع شاقة وقعت على عاتقي دفعة واحدة هزت اتزاني ولكن إيماني بأن مدبرها حكيم كان أمجد. وختاما اللهم عمرا مرضيا وسعيا لك متقبلا وقلبا بك متعلقا.