مونديال قطر.. والصراع بين الشرق والغرب

627

عرف مونديال قطر قُبيل انطلاقه حملة إعلامية كبيرة لتشويه صورة قطر كمنظم، بل كدولة عربية مسلمة لها قيمها، وانتقلت القضية حتى لبعض المنتخبات كإنجلترا وألمانيا، فشاهد العالم الكل تلك الصورة للاعبي المنتخب الألماني وهم يضعون أيديهم على أفواههم. كل تلك الحملة ما هي إلا تأكيد للصراع الحضاري بين الشرق والغرب، وهو بحق صراع القيم والمبادئ.

تشبثت قطر بمادئها وقيمها، وأعرافها وتقاليدها. منعت الخمور في الملاعب، ومنعت الترويج لما يعرف “بمجتمع الميم” وهذا ما أثار حفيظة الغرب الذي يريد أن يفرض قيمه على الغير، ويتشبث هو بقيمه ومبادئه -ولسنا بصدد نقاش صحة هذه القيم- بينما يطالب من الآخر التخلي عن قيمه ومبادئه.

وهنا يطرح السؤال: إذا كان من حق الغرب الدفاع عن قيمه أليس من حقنا كمسلمين وعرب أن نتشبث وندافع عن قيمنا ومبادئنا بدورنا؟! وأكرر أننا لسنا بصدد مناقشة صحة تلك القيم، فالمنظور يختلف ويختلف معه الحكم أيضا. لقد اعتاد الغرب أن يمارس سطوته الفكرية والثقافية على الغير، ويريد أن يخضع الجميع لقيمه هو دون مراعاة الفوارق الثقافية والفكرية والاجتماعية، ووصل التعنت الغربي مداه عندما أراد أن يفرض قيمه في حدث عالمي كبير كمونديال قطر.

ثم يقع ما كان يخشاه الغرب، لقد ظهرت أن تلك الحملات الإعلامية كانت مضللة، وأن مونديال قطر هو أفضل نسخة تنظيميا ورياضيا، وعبر الكثير من المشجعين أن تجربة مشاهدة المباريات والاحتفالات التي تعقبها دون الحاجة لشرب الخمور كانت مميزة واستثنائية، وكانت الفرحة والسعادة حقيقية دون محفز خارجي، وتضيف المشجعات -الأوروبيات خاصة- أن الذهاب للستادات والملاعب في غياب الخمور كان آمنا ولم يتعرضن للتحرش، وطالبن بتعميم التجربة في كافة الملاعب الأوروبية.

ويصل الصراع ذروته في مونديال قطر حين تشبث الجمهور العربي بقضيته الأولى وهي فلسطين، واستغلال الحدث العالمي للتعريف بالقضية، وفي هذا الصدد يقول الصحفي الأمريكي من أصل مصري أيمن محيي الدين أن “مونديال قطر أثبت أن القضية الفلسطينية لم ولن تنسى”. حيث كان علم فلسطين دائما حاضرا سواء داخل الملاعب أو خارجها، وتصاب إسرائيل بخيبة أمل كبيرة، إسرائيل التي أرادت من مونديال قطر بداية أن يكون تجربة ميدانية تقيس من خلاله مدى تقبل الشارع والمواطن العربي لها، حيث كان في بداية المونديال يتعمد مراسلو إسرائيل التعريف بجنسيتهم وهويتهم كصحفيين إسرائيليين وكانوا دائما يرفضون من العرب، فكانت الصفعة قوية ليلجأ بعد ذلك المراسلون لإخفاء هويتهم، بل وطالبت إسرائيل من رعاياها أن يخفوا هويتهم في قطر ولا يرتدون أي شارة تظهر هويتهم كنجمة داوود لأنهم غير مرحب بهم في قطر.

لقد ظنت إسرائيل أن التطبيع مع الحكومات سيجعلها مقبولة بين الشعوب العربية لكن مونديال قطر كان انتكاسة لآمالها، فكتبت صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية “إن احتفالات لاعبي المنتخب المغربي بالعلم الفلسطيني بعد كل مباراة، وضعت إصبعا في عين المشاهد الإسرائيلي، وكل من ظن أن قطار التطبيع سيغير شيئا في قلوب العالم العربي تجاه اسرائيل”. ليكون مونديال قطر بحق ذروة الصراع الحضاري والقيمي، صراعا كان من الممكن تفاديه والتركيز على الرياضة والاستمتاع بالكرة كأكثر رياضة شعبية في العالم، والإنجازات التاريخية التي سجلت لو أن الطرف الآخر احترم تقاليد وعادات البلد المضيف كبلد عربي ومسلم وتقبل فكرة أننا أيضا لنا قيمنا ندافع عنها ونتشبث بها، وأفضل صورة تظهر التباين الثقافي بين الشرق والغرب هي صورة احتفال اللاعبين المغاربة مع أمهاتهم، إنها صورة رمزية لها ما بعدها، تبين مركزية الأم في الثقافة الإسلامية والعربية، تلك المركزية التي فقدتها الأم في الثقافة الغربية، وأعطيت لغيرها.

ولا يمكن طبعا، الحديث عن مونديال قطر دون الحديث عن الإنجاز الذي حققه مننتخبنا المغربي، الذي وصل حتى الآن لنصف نهائي كأس العالم متغلبا على خصوم كبار كإسبانيا والبرتغال، ويبقى الإنجاز الأكبر الذي حققه المنتخب المغربي في رأيي هو توحيد العرب على قلب رجل واحد، فأصبحنا نرى المصري والتونسي والليبي والجزائري والخليجي والشامي كلهم يفخرون ويتفاخرون بالإنجاز الرياضي كأن بلده هو الذي حققه، وعبارة “رفعوا رؤوسنا” تدوي من المحيط إلى الخليج والحلم العربي أصبح حقيقة.

ويُكسّر المغرب تلك الهيبة الأوروبية وأنهم لا ينهزمون من العرب والأفارقة، ويغير عقلية المشاركة من أجل المشاركة إلى المشاركة من أجل المنافسة، وقطعا سيحاول كل من يأتي بعد المغرب من منتخبات عربية وإفريقية أن يحذو حذوه. لقد تكسرت الأسطورة، ولن تقتصر على الرياضة فقط بل ستمتد لباقي الميادين ومن يدري قد تكون بداية نهاية الحضارة الغربية من مونديال قطر ويكون السقوط في الرياضة هو البداية ويجر خلفه السقوط في باقي الميادين، فالأسطورة سقطت. نعم أعرف أن من المبكر الحديث عن سقوط حضارة بأكملها فقط لأن منتخباتها انهزمت في مباريات كروية ولكن التاريخ يخبرنا أن التغيير يأتي دائما من أبعد مكان نتخيله ويأتي صغيرا ثم يتعاظم ويكبر.