زمنية الإنسان وأثره التاريخي

انتهت 2022 وبزغت شمس 2023، وكل منا ينتظر من هذا العام أن يكون عام بركة وخير وسعادة، انتهت 2022 بأحداثها السعيدة وأحداثها المؤلمة، بخيباتها وبنجاحاتها، بأفراحها وأحزانها، حملت كل ذلك وذهبت ومعها سجل مليء بالذكريات والعبر والأمنيات.
ها نحن نستقبل عاما جديدا، فهل نستقبله كالذي قبله، أم أن استقبالنا له سيكون أفضل وأحسن!؟ كيف نرى عام 2023 وما هي أهدافنا!؟ هل نحن بالفعل نتقدم كلما زاد عمرنا؟! كيف أنظر لنفسي بعد هذا العام، هل تغير طبعي، هل تغير فكري، هل تغيرت علاقاتي، هل تغيرت أخلاقي؟ ما هو سر (الهدف) الوجود والحياة؟ ما الذي يعني أن الإنسان محدود زمنيا!؟ كل هذه الأسئلة وغيرها هي أسئلة تأمل وتدبر، يجب على كل واحد منا أن يسأل نفسه عنها ويجيب عنها، عسى أن نطمح لواقع أفضل، ولمستقبل زاهر.
وهبنا ربنا حياة واستخلفنا في هذه الأرض، ليس لملء رغبة الجسد والمادة، ولا للحياة المعدومة اللاغائية، خلقنا لمبدأ وجودي، خلقنا لعمارة الأرض بالخير، لنشر العدل والسلام، للبحث عن الحقيقة حتى الموت، خلقنا للعبادة. الحياة نعمة، فاستغلوا أعماركم في تحقيق السعادة والرضا، الحياة لا تستحق ذاك العناء الذي تتخيلونه في فكركم، الحياة لا تكون حياة إلا ببساطتها، بيسرها، وبالبسمة التي ترسمها في وجه طفل أو يتيم. وتذكر دائما أن هذه الحياة حياة قصيرة، حياة زمنية محدودة، الإنسان زمني بطبعه، ومن هنا ندرك أن أساس وجودنا هو ترك بصمة وأثر، من أجل حياة أخرى هي حياة دائمة وسعيدة نخلد فيها، هذا الخلود لا يبدأ إلا من هنا فاستعد لخلودك.
زمنية الإنسان لا تتعلق بمحدوديته التاريخية، بل في سعيه المستمر لتجاوز اللحظة الراهنة والتعالي عليه. زمنية الإنسان تجعل كل فرد مشروعا لإنسان محدد، يتحدد معنى حياته بما يضيف إلى الوجود من إسهامات، هي في البدء حزمة من الممكنات الوجودية للإنسان غير واضحة المعالم، يتطلب تحولها من كمون إلى وجود، أو من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، إلى تطبيق العناصر الوجودية الإنسية، من فكر وعاطفة وخصائص معنوية وإرادة، في حيز مكاني وزماني محدد.
تحقيق المشروع الفردي يتطلب استحضار الخصائص الإنسية وتحويلها إلى حضور إنساني تاريخي. الحضور التاريخي للإنسان لا يقتصر بطبيعة الحال على الشخصيات التاريخية التي حفظ تفاصيل وجودها الكتاب والأدباء والشعراء والمؤرخون؛ بل يشمل كل فرد امتد وجوده زمنيا ليترك أثرا ومعنى في رحلة الإنسانية عبر التاريخ، مهما كان هذا الأثر والمعنى محدودا أو طفيفا. الشخصيات التاريخية يجب أن ترى على أنها ومضات ضوئية، تستمد طاقتها وقدرتها على الإضاءة من الطاقة المتولدة من الحراك الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي التاريخي؛ الذي هو حصيلة لتضافر الجهود والطاقات البشرية المتراكمة.
مقالات مرتبطة
مع بروز البعد الزمني للوعي، وإحساس الفرد باستمراره الزمني، وتحول الذات إلى مركز لترابط التغييرات المكانية، وما يرافقها من تغير محيطها من أشياء وأشخاص، يبرز سؤال: الأصل والمصير. أين البداية؟ وأين النهاية؟ سؤالان يشغلان الوعي الإنساني؛ لأن الإنسان كائن زمني، يتولد وعيه في فضاء زمني ممتد بين لحظتين مترابطتين، لحظة الولادة ولحظة لموت، وكلتاهما تقع خارج دائرة الوعي المباشر للذات الحية. فلحظة الولادة لحظة مغيبة للذات الواعية، خارجة عن دائرة وعيها، لحدوثها في زمن سابق على وعي الذات، رغم تشكيلها لحظة بداية وعي الوجود، هي لحظة يدركها الفرد عبر أوصاف ينقلها إليه من شهدها من أهل وأقارب، وتوثقها الصور الثابتة والمتحركة، ويستبطنها العقل عبر عملية قياس على الأشياء والأشخاص المتناثرين داخل دائرة وعي الفرد. وبالمثل فإن لحظة الموت لحظة مغيبة، حالها حال لحظة الولادة يتوقعها الفرد بالتأمل، أو يتجاهلها بالاستغراق في لحظات مغايرة.
وبين الولادة والموت تمتد حياة الفرد في حركة متتابعة، تتقلب في الحياة وتتابع في شريط من الأحاسيس والمشاعر والمواقف والأفعال والأحداث. حياة الفرد تشكل امتدادا زمانيا هو العمر الذي يمضيه الفرد في دائرة الحياة الواعية يقاس بالسنين، وقد يقاس بالسنين والأشهر والأيام. هذا الامتداد الزماني يمكن تمييزه، بنسبة متفاوتة من الخطأ، في المعالم الجسدية للإنسان، التي تسمح بتمييز مراحل عمرية من طفولة ومراهقة وشباب وكهولة وشيخوخة. وبتقدم العمر تزاد الخبرة والمعرفة، ويتسارع الإحساس بمرور الزمن وانتهاء المهلة.
التعاقب المستمر للأيام والأشهر والسنين، وتتابع الأحداث، تحيل الزمن إلى حركة خطية تبدو مستقلة تماما عن المكان. بيد أن الإحساس بحركة الزمن لا ينجم فقط عن مؤثرات خارجية تتعلق بتعاقب الليل والنهار الذي يسمح بتقسيم الزمن إلى أيام، وتتابع الفصول الذي يشعرنا بتعاقب السنوات. فالإحساس بالزمن الخارجي الذي تولده حركة الأجرام السماوية، يقابله إحساس داخلي بالزمن مستقل نسبيا عن الحركة الخارجية، يتولد داخل الوعي. فالإحساس الداخلي في الزمن لا يختفي حتى عندما تتوقف الحركة الخارجية تماما، ويمتنع على الإنسان الإحساس بتعاقب الليل والنهار، أو تعاقب الفصول، بوضعه مثلا في زنزانة مظلمة بعيدا عن التغيرات المناخية. في مثل هذه الحالة يحصل انفصام كامل بين الزمن الداخلي والخارجي؛ إذ يخضع الإحساس بالزمن عند ذاك إلى الحالة النفسية للسجين؛ إذ يؤدي القلق والضجر والغضب والخوف إلى إطالة الزمن الداخلي، في حين تؤدي مشاعر الفرح والمتعة والانشغال إلى الشعور بقصر الزمن.
زمنية الإنسان إذن حالة طبيعية تتعلق بماهية محيطه الطبيعي وتكوينه النفسي، ولكن العنصر الأساسي في زمنية الإنسان، يكمن في تنامي قدراته الجسدية والنفسية والفكرية والروحية بمرور الزمن، وتراكم الخبرات ورياضة النفس والجسد. هذا الامتداد الزماني ضروري لتحقيق الإمكانات النوعية، والممكنات الإرادية المرتبطة بالإنسان. الامتداد الزمني يسمح بعملية النضج العضوي والنفسي والاجتماعي، ويضفي شيئا من التخصص على مراحل العمر. فالنضج العضوي يبدأ مع بلوغ سن الحلم واكتمال الفرد الجسدي والتناسلي. والنضج النفسي يكتمل مع اكتساب الفرد المهارات اللازمة للمساهمة في الحياة الاجتماعية. في حين يكتمل النضج الاجتماعي مع وصول الفرد إلى مرحلة من الإنجاز في دائرة مساهمته الاجتماعية؛ بحيث تجعله شريكا مؤثرا في توجيه الحياة الاجتماعية. زمنية الحياة الإنسية باختصار تتعلق بحاجة الذات الواعية إلى امتداد زمني؛ لتحقيق مشروعها الوجودي عبر ترجمة القوى الكامنة فيها إلى إنجازات عملية واقعية.
زمنية الإنسان يلخصها القرآن في قوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}
ويقول كذلك: {كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة}.