أين تلتقي العلوم؟ وما دور ذلك في تحليل الخطاب؟
إن الإرث الذي حرصت الأمم السابقة على تحصيله هو العلم، كونه من أقدس الأمور وأعظمها، والذي ينال شرف طلبه يرفعه بين الناس، وتسموا مكانته وتتعزز علاقته بالله عز وجل، مصداقا لقوله سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وفي آية أخرى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} وجاء في قوله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. فالعلوم تتداخل ببعضها وتتكامل، ليستفيد كل علم من الآخر، لكن أين تتجلى مظاهر هذا التداخل؟ وما أهميته في بناء المعرفة وتأويل الخطاب؟
إن قولة أبي حامد الغزالي: “للمتعلم ألا يدع فنا من فنون العلم” تحيلنا على ضرورة الأخذ من مختلف العلوم، وذلك لكونها تتداخل ببعضها وتتقاطع في العديد من المواضع، فالفلسفة والمنطق على سبيل المثال، يخوضان في ضروب من البحث عن الحقيقة التي اقترح لها مجموعة من الفلاسفة منهجية محددة، كالاستدلال المنطقي، الذي طبقه رينيه ديكارت على الفلسفة، لكن مرجعيته رياضية محضة.
وندرج النحو أيضا في معرض حديثنا عن التقاء العلوم وتداخلها، نظرا لأنه يهتم بالكلمات والأحوال التي ترد عليها في جميع المواضع، والصرف يحرص على تبيان أواخر هذه الكلمات، أما دورهما هذا فله تأثير مباشر على تحليل الخطاب أو تأويله، فالكسر والرفع والنصب والسكون لهم دلالات متعددة، كما لتقديم وتأخير الفعل أو الفاعل مقصدية أيضا، والنص لا ينظر إليه في الجانب النحوي فقط، بل حتى البلاغي والعروضي، كلها علوم تتداخل ببعضها لتحلل خطابا معينا، وتكشف عن المعنى المتواري خلفه، فنهاية معركة الهجاء على سبيل المثال، بين الفرزدق وجرير، أن الأول أتى بقصيدة قافيتها تنتهي بالرفع، والأخير جاء بنقيضتها تنتهي بالكسر، والكسر لا يستقيم للرفع.
ويتابع الإمام الغزالي في مقولته: “فإن العلوم كلها متعاونة مترابطة بعضها ببعض” والقصد منه بالتعاون هنا أن العلوم تخدم بعضها، فنجد العلوم الإنسانية تتكامل بغرض تفسير الظواهر التي تتجاوز علما محددا، فعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة، تجمعهم العديد من النقاط المشتركة، لأن الموضوع الأساس الذي تهتم به الفلسفة هو الوجود البشري، وما يتعلق بهذا الكائن، من حيث أسلوب تفكيره والمنطق الذي ينهجه في العيش، أما علم النفس فيهتم بهذا الإنسان من جانب آخر، الجانب الذي تتضارب فيه المشاعر والأحاسيس وتتقلب، وذلك ليهتدي إلى تفسير واضح لكل حالة يعيشها الإنسان، أو ما تمر به تلك النفس المضطربة، ليأتي علم الاجتماع بعد كل هذا مفسرا مسألة الوجود في المجتمع، وكيف انتقل الإنسان من حالة الغاب إلى حالة المدنية، وذلك عبر الاتفاق والتواضع على مجموعة من من المبادئ، أما الأسباب التي قادت البشرية إلى هذا الاتفاق، فيشرحها علم النفس مستعينا بحالة الخوف والرعب وغياب السكينة والطمأنينة في فترة مرحلة الغاب.
هنا ينشغل علم الاجتماع بتفسير أسباب الانتقال من حالة إلى حالة، واصفا هذا المجتمع والتغيرات الطارئة عليه، والفلسفة تنظر إلى هذا الموضوع في شموليته بغرض تفسير ماهية الوجود البشري، وقد كان باروخ اسبينوزا وجون لوك من أبرز رواد هذه النظرية، لكن إن سألنا عن العلاقة بين العلوم الإنسانية والعلوم التي تهتم باللغة العربية، فهل سنجد ترابطا معينا؟
إن الحديث عن العلاقة بين العلوم الإنسانية وعلوم اللغة العربية، يعود بنا إلى الحديث عن البلاغة والنقد، كعينتين هامتين لتفسير ماهية هذا الترابط، فالبلاغة ولدت من رحم النقد، ومرت بمجموعة من المراحل، بدءا من التعليق والحكم على الأشعار قديما في الأسواق الأدبية، كعكاظ وذي المجاز، وقد قامت على مصادر أهمها التعبير القرآني، والشعر القديم، غير أنها لم تعد قادرة فيما بعد على مواكبة كل جديد في الساحة الأدبية، ليبدأ بريقها بالاختفاء تدريجيا لتعود مرة أخرى مستفيدة من الفلسفة اليونانية ومن أهم توجهات كبار الفلاسفة كأفلاطون وأرسطو وسقراط فصارت بذلك بلاغة تقوم على الحجاج والمنطق والاستدلال لتنتقل فيما بعد إلى الغرب مستفيدة من اللسانيات مع دوسوسير والأسلوبية مع تلميذه بالي لتنفتح بعد ذلك على مجموعة من المناهج فصارت علما محكما دقيقا أما النص فتعددت الزوايا التي ينظر فيها إليه، فالعوامل الاجتماعية والنفسية تؤخذ بعين الاعتبار، بالإضافة إلى البناء البلاغي والصرفي والنحوي والعروضي الذين يشكلون بنيته السطحية.
بهذا أصبحت العلوم الإنسانية وعلوم اللغة تخدم بعضها، وذلك بغرض بناء المعرفة وتأويل الخطاب، فالتأويل يحتاج لأدوات متعددة تتظافر فيها مختلف العلوم وتتكامل مع بعضها لتقدم تفسيرا معينا للنص، فصرنا ننظر اليوم لمختلف العلوم على أنها علم واحد، نظرا لما يستدعيه الخطاب من أدوات تحليلية تساعد في عملية التأويل.
المصادر والمراجع المعتمدة
إحياء علوم الدين، أبو الحيان التوحيدي