بين الأطلال والقمم..ذاكرة تاريخ عن تطور الأمم
بقدر ما أسهب الكثير من الباحثين والمفكرين حول مفهوم التاريخ، فإن معظمهم يتفقون على أنه ليس باقة من الحكايا المروية من قبل الأمهات والأجداد على مسامع الأحفاد، كما أنه لا يُعد من الرفاهية الثقافية والفكرية، حتى وإن كان في ظاهره سرد وحكاية لكنه في باطنه عِبَر وغاية، بل وبعد نظر في ما وراء سطور الأحداث كـما أخبر بذلك ابن خلدون في كتابه : “أخبار الأمم”، وكما كتب سفيان الثوري عنـه قائلا: “أنه العمق الاستراتيجي لمن يبتغي صناعة المجد في الحاضر والمستقبل” ولأنه العلم الحقيقي الوحيد الذي بدراية أحداثه ومساراته كفيلة بأن يدرك الباحث أسباب الأحداث في حقبها، وعلل تشكلها، وإمكانيات إعادة تحققها في المستقبل. لأن السلاح الوحيد دائما حسب جريسولد هو محاربة فكرة سيئة بفكرة أفضل منها، وهذا ما يجعلنا كشعوب وأنظمة سياسية منقسمة لا نعتبر من الماضي وأطواره سوى التغني بأطلال المجد وسرديات البكاء والمفاخرة بسرد أساطير الأولين.
يقول في ذلك الدكتور حسين مؤنس في دراسة له بعنوان “التاريخ والمؤرخون”: “العربيّ كان أقل الناس اعتباراً بالتاريخ، إنه يقرأ التاريخ ليلتمس الحكمة فينسى التاريخ والحكمة جميعا. ومعاوية بن أبي سفيان، كان يُقرأ عليه تاريخ الفُرس، ولكن ما من خطأ وقع فيه الأكاسرة إلا وقع هو فيه. وهارون الرشيد، قرأ تاريخ الأمويين ولم يعجبه أن عبد الملك بن مروان أوصى لأولاده الأربعة بالخلافة من بعده على نسق، ومع ذلك فهو نفسه أوصى لأولاده الثلاثة على الترتيب. فكانت حرب الأمين والمأمون، وقتل الثاني منهما الأول، وتضعضع ملك بني عبّاس، فأين الاعتبار بالتاريخ والاتعاظ بما وقع فيه؟ والسبب في ذلك أن العربيّ لم يعد يقرأ شيئًا خارج نطاق علوم الدين قراءة جد واحتفال، وإنما القراءة كلها عنده تسلية وملء فراغ، ولا يكاد يدع الكتاب حتى ينسى ما فيه، ولكن أممًا أخرى عرفت فضل التاريخ بأكثر مما عرفه العرب. أخذوه مأخذ الجد واحترموه، ودرسوه ودققوا فيه وحققوا، وحاولوا أن يتعرفوا مساره وما وراء حوادثه، وبحثوا عن مادته ومغزاه ومعناه.”
فإذا ما أخذنا وضع لبنان الحالي التي أجدها أرضية إسقاط جدلية التكرار الزمني بالملموس “أن التاريخ يعيد نفسه” فيما يظل حاضر البلد المفلس المنقسم طائفيا، ليس إلا إعادة تشكيل وإنتاج الماضي.
إيمانويل ماكرون، ذلك السيد النبيل، الذي رأى في منامه حال لبنان وفجأة تذكرها وتذكر أن أعلام لبنان الفنية كالعظيمة فيروز والقامة ماجدة الرومي اللتان قدمتا طقوس الترحيب المستسلم لإرادته لأجل إنقاذ بلادهم وكأنه المسيح المخلص، ثم ما لبث أن ذاع صيته كبطل وطني بين أزقة بيروت يصافح الناس المنهكة من الطائفية وندرة التموين وشح السيولة وإفلاس الدولة، المتوسمين فيه إنقاذهم بعد أن فشل في ذلك المسؤولون من أبناء جلدتهم. التاريخ هنا يجعل الدارس يدرك أن الرجل لم يترك باريس ومعه رهط من حاشيته ورجال الأعمال لعيون هذا الشعب المتعب.
ماكرون لم يقم بالزيارات البيضاء مؤخرا للجزائر بدافع المحبة وحسن الجوار، بل ما دفعه هو اقتداء بمناقب أسلافه وأجداد الملكيات والجمهوريات بفرنسا، مثلما كان نابليون الصغير الذي لم تجذبه بلاد جبران أو محفوظ، لينشر فلسفة الأنوار وحملة السلام مدفوعة بقيم جاك روسو أو فولتير، بل هي رغبة كبيرة في وضع فرنسا يدها الخفية على استغلال المستعمرات كحجر الزاوية الأساس، وتسيريها بما يخدم المنطق الجيواستراتيجي والمصالح الاقتصادية لقصر الإليزيه الذي يسعى بكل الطرق إلى توسيع مجاله الحيوي والإبقاء على مستعمراته، مستفيدا من دراسة التاريخ باعتباره منجما يزخر بنقط خفية كانت قد أُهمِلت وهي اليوم بمثابة المفاتيح الذهبية لمشاكل حاضره.
ولأن الغرب لا تحركه سوى مصالحه الاقتصادية في المقام الأول انطلاقا من وعيه لتاريخه، فقد شرع في حملاته البحرية في القرن 16 سميت فيما بعد بـ “حركة الاستكشافات الكبرى” للقارات والجزر، ودراسة المنطقة الإفريقية جيدا منذ بدايات القرن العشرين، يدفعه الإدراك العميق لنتائج تاريخه القديم -كالحروب الصليبية- نحو عمق الشرق الأوسط والعاصمة دمشق، بعد أن حقق انتصارا على ثوار العرب في معركة ميلسون، فكان وقوف الجنرال الفرنسي “هنري غورو” على ضريح السلطان المملوكي “صلاح الدين الأيوبي” قائلا بصوت صاخب: ها قد عدنا، تماما كما رددها البينديكتيون بعد احتلالهم الجزائر عام 1830 مستحضرين أيام التواجد الروماني المسيحي في المنطقة، حتى اعتبرته أوساط المثقفين أنه أمر جيد من باب نشر الرسالة الحضارية للغرب والتبشير بها.
بنفس هذا المنطق اليوم، ولأن محكمة التاريخ تحكم بالإعدام على أولئك الذين يملكون من الحقائق أكثر مما يملكون من الوقائع، وأولئك الذين يملكون من العدالة أكثر مما يملكون من القوة حسب السباعي، فإننا سمعنا من أحد زعماء حزب فوكس الإسباني اليميني المتطرف سنة 2017 وهو يرفع صوته بكل جرأة في البرلمان بالمطالبة لضم الريف شمال المغرب، الذي يعتبره امتدادا جغرافيا وتاريخيا للجارة الشمالية.
وقد جاء في الحديث النبوي أن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين. وقد خسرت الشعوب العربية والإسلامية الريادة على العالم، وانحسر دورها الحيوي أمام الهيمنة الغربية والسطوة الإمبريالية ذات الوعي العميق بتاريخ الإنسان العاقل القديم والحديث، وبتطور الأمم الذكية التي تمتاز بذاكرة حية تدفعها لأقصى إمكانياتها للتطور وامتلاك القوة والمعرفة. أما شعوب المنطقة بقياداتها اليوم، ليس لهم من الأمر شيء سوى “أنه بيد الله” لكنهم يدركون حقا أن {الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}