من الغايات النبيلة لصيام رمضان

لقد أصبحت أيامنا في الآونة الأخيرة تتكرّر بنفس الروتين اليومي المعتاد، حتى صرنا عندما نُسأل على أحوالنا نُجيبُ بالمقولة: “لا جديد يُذْكَر ولا قديم يُعَاد”، فهذا من الخطأ، لأنه من الواجب أن نكون من العباد الشاكرين لله تعالى على نعمه التي أنعمها علينا والتي لا تُعدّ ولا تُحصى، نعمة الصحة والسلامة النفسية وأنّنَا لا زلنا بنفس القوة والسلامة الجسدية والعقلية التي فقدها البعض منذ مدة طويلة، أو منذ البارحة أو منذ الصباح أو قبل ساعة من الآن..
فالحَمدُ لِلَّه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، فشكر الله تعالى قرين للعبادة، أي أنه من لم يشكر الله، لم يعبده وحده، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [ البقرة: 172]. فهنا من الواجب على الإنسان العاقل أن يستشعر عظمة الله في كل وقت وحين، وأن يلتزم بأوامره تعالى واجتناب نواهيه، وذلك باغتنام الفرص السانحة والتقرّب إلى الله تعالى لكي ينعم بالسكينة والراحة النفسية، وتكفير الذنوب والاغتسال من المعاصي والخطايا التي اقترفها في حياته..
ومنه وجب الرجوع والتوبة إلى الله، ويمكن تحقيق هذا التقرّب إلى الله تعالى ونيل رضاه، عن طريق الحرص على أداء العبادات والطاعات على طول أيام السنة فنجد منها:
أولا: العبادات اليومية ومن أهمها الصلاة في وقتها، وذكر الله وتلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه، وصلة الرحم والصدقة وبِرُّ الوالدين وكل أعمال الخير.
ثانيا: العبادات الأسبوعية كصلاة الجمعة، وقراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها.
ثالثا: العبادات الشهرية ومنها صيام ثلاثة أيَّام من كل شهر والأفضل أن تكون في الأيَّام البيض.
رابعا: العبادات السنوية كالزكاة لمَن توفَّرت فيه شروط وجوبها، والحجّ لمَن استطاعَ إليه سبيلاً، وصوم رمضان، وصلاة التراويح جماعة في المساجد، وصلاة العيدَين، وكذا صيام ستة أيَّام من شوال، وصوم عاشوراء ويوم قبلَه أو يوم بعدَه، صوم يوم عرفة، والإكثار من الأعمال الصالحة في رمضان.
فالله سبحانه وتعالى، فضّل أيَّاما على أيام وأشهر على أشهر ليدرك العبد فائدتها ويغتنمها، فجعل شهر رمضان المبارك من الشهور الفضيلة، وحثّنا فيه على الإكثار من الطاعات والاعمال الصالحة كما أشرت لها سابقا، فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن على سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالضبط في ليلة القدر، يقول الله تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة: 185].
ولذلك وجب استغلاله أحسن استغلال بنيّة التقرّب إليه سبحانه وتعالى وتكفير الذنوب والخطايا، وتهذيب النفس وتزكيتها من الرذائل والأخلاق الدنيئة، وما علق بها من رجس ودنس والأمراض القلبية الخطيرة التي تعيق على الفرد والمجتمع عملية الإصلاح، والحصول على نفس سويّة بعيداً عن أعراض القلق والاكتئاب التي تؤدي إلى الشعور بالفراغ الروحي والضياع، وكذا فقدان السيطرة على النفس وعدم كبح جماحها، كلها أسباب وظواهر انتشرت بشكل مخيف في مجتمعاتنا المعاصرة.
فمجيء شهر الصيام، شهر رمضان المبارك في هذه المرحلة بالضبط من السنة ليس عبثا. بل لحكمة يعلمها الله وحده، وهو العليم بأنفسنا وما تخفيه صدورنا من ذنوب وخطايا، وذلك نتيجة البعد عن الطريق المستقيم، والتقصير في العبادة واتباع أهواء النفس البشرية، ممّا أدى إلى فقدان حلاوة العيش الكريم، والشتات الفكري والنفسي، وكثرة الأمراض النفسية التي أصبحت منتشرة بكثرة في مجتمعاتنا العريبة والإسلامية.
يأتي شهر الرحمة والمغفرة ليعتقنا به الله عز وجل من النار ويزكي أنفسنا، وينقيها من الأخلاق الرذيلة وما علق بها من ذنوب ومعاصي لا يعلم بها إلا هو وحده، وذلك لمن صامه على أكمَل وجه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” رواه البخاري ومسلم.
إنّ شهر رمضان ما هو إلاّ فرصة عظيمة للعودة إلى الله سبحانه وتعالى، وتجديد الإيمان والتحرر من عبودية الهوى وذل الشهوات، ولإحياء المسلم والأمة الإسلامية جمعاء، وإعادة بعث النفوس وتزكيتها وصيانتها من كل أنواع الحقد والكراهية، وتليين القلوب ونشر الرحمة بين العباد سواءََ بين الآباء والأبناء وأفراد العائلات، وبين مختلف أفراد المجتمع بأكمله، وتمَكّن المسلم من تحقيق المقصود من خلقه، وهي العبودية للّه تبارك وتَعَالَى وإعمار الأرض، وعبادة الناس لربّ العالمين، وإخراجهم من ضيق الدنيا والمعاصي التي اقترفوها طيلة السنة إلى سعة الدنيا والآخرة، وسلك طريق الهداية والحق بعيدًا عن كل أنواع الضلال والغي والفسوق، فهي السبيل الوحيد للحفط من كيد الشيطان وكيد الفجار، وهي التي تحفظ المسلم من الوقوع في المعاصي والذنوب التي هي أساس كل بلية وكل شرّ يقع فيه الفرد والأمة بأجمعها.
وعلاقة بما سبق، فإذا كان مقصد الصيام، تجديد الإيمان بالله تعالى وتزكية النفس وتهذيبها، وذلك بترك الأكل والشرب طوعا طيلة اليوم، والإمساك عن المعاصي والشهوات والابتعاد عن العادات السيئة، والإكثار من العبادات التي تقربنا إلى الله.. إلا أن هذا الترك والإمساك، يشعر المسلم الصائم بالحرمان والجوع والمعاناة خلال نهار يوم كامل، تحت حرارة الشمس المرتفعة، فيدفعه ذلك إلى تَذكُّرِ حال الكثيرين المحتاجين الذين يعيشون هذه المعاناة والحرمان كل يوم وعلى طول السنة، كل هذا دون استشعار هول هذا الإحساس الصعب والخطير الذي أصبحنا نعيشه خلال هذه الأشهر الأخيرة، نتيجة غلاء أسعار المواد الغذائية والبضاعات بمختلف أنواعها التي يكتوي بها شعب هذا الوطن الحبيب.
إنّ استشعار الإنسان المسلم وتذكّر الوضع والمعاناة التي تعيشها هذه الفئة الكثيرة في مجتمعاتنا وما يتعرضون له من حرمان وإقصاء وذل، تدفع المسلم إلى الشعور والتفاعل الإيجابي معهم والإحساس بمعاناتهم وذلك بإقامة موائد إفطار يجمعهم فيها في شهر رمضان، أو بإخراج جزء من ماله على سبيل الصدقة أو المساعدة أو مجرد الدعاء لهم.. يقول الحق سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103]، فالصدقة تطهير للنفس من الذنوب والمعاصي، وتزكّيها من الأخلاق الرذيلة والسيئة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فبصدقتك ومساعدتك، تُفرِّج مِحْنة المحتاجين المساكين وتُخفّف عنهم قُبح الفقر والعوز.. كما يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “من نفَّسَ عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَبِ الدنيا، نفَّسَ اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ. ومن يسّرَ على معسرٍ، يسّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرةِ. ومن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ. واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه”. فإدخال الفرحة على قلوب المحتاجين لا يعادلها شيء، وكلّما أدخلت الفرح والسرور على قلب إنسان، وفرّجت كربته ومِحْنَته، كلّما عوّضك الكريم والعظيم بما هو أعظم في الدنيا والآخرة.
إن الأمر الأساسي هنا، يتجلى في البحث حول أسباب هذا الحرمان والنقص، والتخفيف من آثاره، التي تؤدي إلى معاناة هؤلاء الفئة الكبيرة المغلوبة على أمرها، وكيف وصل بهم الحال إلى هذا المستوى من العوز والفقر، فلكم أن تقوموا بجولة في سوق أسبوعي أو “سويقة” كما يقول الشعب المغربي، لكي تروا وتستشعروا كمية الاحتياجات والبؤس الذي يعيشه الشعب المقهور، وكيف أنه لا يقدر على اقتناء الحاجيات الضرورية وشراء ولو بضع كيلوغرامات من الخضر الأساسية ليسد به جوع أبنائه وعائلته، هذا دون الحديث عن الفواكه والكماليات، تراها تنظر وتتمنى أن تشتري وتملأ القفة بما لذ وطاب، ولكن دون جدوى، نظرا للارتفاع غير المسبوق الذي تعرفه أثمنة جميع الخضروات والفواكه والمواد الغذائية بكل أصنافها.. فِعلا الواقع مؤلم والوضع مُبكِِ ومحزن أكثر من اللازم. في حين تجد فئة أخرى تملأ موائدها بكمّيات هائلة من الطعام وأصناف مختلفة من المأكولات، تذهب جلّها إلى القمامة، وهذا مخالف لمقصد الصيام وهو عدم التبذير والإسراف، ومن هنا يذهب ويضيع الثواب الذي كُنّا سنكسبه إذا ما تجنّبنا النهم والإسراف بكثرة.
وفي الأخير، نتمنى من الله عزّ وجل أن يتقبل منا ومن جميع المسلمين الصيام والقيام وصالح الأعمال، وأن يجعلنا من عباده الصالحين الذين يستغلون هذا الشهر العظيم أحسن استغلال، ويحصلوا على نفس سويّة وتوازن نفسي واجتماعي، ومن ثمَّ تحقيق سلطان الروح على الجسد، فيعيش الإنسان مالكاً زمام أمور نفسه، لا أسير شهواته وميولاته.
1xbet casino siteleri bahis siteleri