التفوق العرقي الصهيوني داخل معركة السرديات

638

داعبت هرتزل فكرة الهوية العرْقية لليهود التي افتتن بها منذ أواخر القرن التاسع عشر، حتى تبناها في ديباجة تأسيس المنظم  الصهيونية، فاستخدم عبارات مثل «الجنس اليهودي» أو «النهوض بالجنس اليهودي»، بحيث يعمل على تمييز اليهود عن غيرهم على أساس بيولوجي، متأثرا بأفكار الصهيوني إغناتز زولتشان (1877 ـ 1948) الذي عرف العرق اليهودي بأنه: “أمة من الدم الخالص لا تشوبها أمراض التطرف أو الانحلال الخلقي” .. حتى بلفورد البريطاني الذي منح الوعد المنكوب لليهود حمل فكرة هرتزل في عبارة “وطن قومي للجنس اليهودي”، وهي كلمات تحمل في طياتها تعريفاً بيولوجياً واضحاً للهوية اليهودية.

في مؤتمر باريس للسلام في نهاية الحرب العالمية الأولى، المنظمة الصهيونية أعلنت تحت دعم بريطاني من خلال بلفورد بأن فلسطين “هي الوطن التاريخي لليهود.. وعلى مر العصور الذين لم يتوقفوا أبدا عن الاعتزاز بالشوق والأمل في العودة” – حسب تعبيرها – وقد عملت المنظمة الصهيونية على بناء مزاعم تاريخية تحت غطاء معادية السامية وبأن اليهود عِرق تاريخي بدم واحد، وهذا جعلهم شعبا متحدا وقومية منفصلة عن الشعوب الأوربية، بزعم انحدارهم من الأسلاف العبرانيين القدماء في فلسطين.

ثم عزز الكيان الصهيوني بعد نكبة 1948 النزعة العرقية لليهود في من خلال فرض قوانين عديدة مؤسسة لذلك كـقانون العودة (1950)، وقانون أملاك الدولة (1951)، وقانون إدارة أراضي إسرائيل (1960)، وقانون البناء والبناء (1965)، مكرسا الوضع العرقي في خطابات المسؤوليين الصهاينة الذين بلغوا ذروة ذلك عند وصول بنيامين نتنياهو إلى السلطة حيث وصفت داليا شنايدلين، أستاذة العلوم السياسية الأمريكية، في صحيفة نيويورك إعلان قانون الدولة القومية لعام 2018 بأنه كان ذروة هذا الجنون التشريعي اللاليبرالي الذي اعتبرته قانونا جديدا يرفع اليهود إلى مستوى مكانة أعلى من جميع الآخرين ..

لذلك تسوق “رابطة مكافحة التشهير” الصهيو-أمريكية والمروجون الأكاديميون الأمريكيون لإسرائيل، والمسؤولون الصهاينة أيضـا، إلى أن “معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية” على اعتبار أن “معاداة الصهيونية هي أن ترفض إسرائيل كعضو شرعي في مجتمع الأمم وتنكر حق اليهود في تقرير المصير وإقامة دولة على أرض إسرائيل”، وأن هذا الترسيخ ذو أهمية وأولوية تفوق أهمية حق تقرير المصير للفلسطينيين، حماية للمشروع الاستعماري الصهيوني ونظام التفوق العرقي اليهودي القائم في إسرائيل. وهذا ما يظهر للباحث المحايد الموقف حيث إنهم أشعلوا حربهم على الشعب الفلسطيني، وسعوا بكل جهد وفي كل منتظم ومحفل إلى نزع الشرعية عن حقه الأصلي في تقرير مصيره. منكرين الهوية الوطنية الفلسطينية رغم حمل العديد من أوائل مؤسسيهم للكيان جواز السفر الفلسطيني حين دخولهم مهاجرين من أنحاء العالم إلى فلسطين، وهذا الإنكار المشبع بالفكر العرقي ما هو إلا تقليد قبيح استخدمته كل القوى الاستعمارية لإنكار الهويات الأصيلة للشعوب المستعمرة.

غير أن النفاق يكمن عند العلمانيين والليبراليين من اليهود والمسيحيين الأمريكيين والأوروبيين معا، في دعم الصهاينة للدفاع عن أنفسهم ناسبين لهم الأرض والتاريخ والأحقية الشرعية متغافلين عن حق شعب فلسطين في أرضه وحقه وبما أقروه في الاتفاقيات الدولية (مدريد 1991) (أوسلو 1993) وغيرها .. بل حتى الصهاينة أنفسهم أقروا ذلك عبر محطات تاريخية سابقة، ففي عام 1924 أشار إليه دافيد بن غوريون الرئيس الأول للكيان الإسرائيلي صراحة بقوله:

“للمجتمع العربي في البلاد حق تقرير المصير والحكم الذاتي.. فالاستقلال القومي الذي نطالب به لأنفسنا نطالب به للعرب أيضا. لكننا لا نعترف بحقهم في حكم البلاد لأنهم ليسوا من يقوم ببناء البلد الذي لم يزل ينتظر من سيعمل على ذلك. وليس لدى الفلسطينيين أي حق بمنع أو السيطرة على عملية بناء البلد، وترميم أنقاضها، وإنتاجية مواردها، وتوسيع مساحتها المزروعة، وتطوير ثقافتها، ونمو مجتمعها الكادح”.

وقد تجلى هذا النفاق والرفض المبطن واللامبالاة لحقوق الشعب الأعزل بشكل مفضوح بعد السابع من أكتوبر، حيث ظهر للعالم ليبراليون متحررون وحقوقيون شرسون في الدفاع عن الصهاينة بشكل مسبوق أقل ما يمكن وصفه بالأشد عنصرية وتطرفا والتزاما بمبدأ دعم التفوق العرقي اليهودي وأرض إسرائيل أكثر من القادة الصهاينة أنفسهم، الذين زادتهم هذه التصريحات والمواقف جرما وسفكا في قطاع غزة لأكثر من شهر..

حتى مديرة معهد تورو لحقوق الإنسان والمحرقة “آن بايفسكي” قد تجرأت بإدانتها التقرير الأخير الصادر عن لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن إسرائيل. وشبهت الإجراء الأممي بمحاكم التفتيش الإسبانية، قائلة إن: المحققين.. قد قرروا أن قتل ستة ملايين يهودي لم يكن لهم حق تقرير المصير ولم يتمتعوا بحماية دولة يهودية؛ لا علاقة له .. مؤكدة على التعريف الجديد لرابطة مكافحة التشهير ضد اليهود بأن معاداة الصهيونية هي معاداة للعرق اليهودي.. وهذا هو وجه القبيح والحقيقي لمعاداة السامية الحديث”.

يقول إسرائيل شامير -اليهودي المعادي للصهيونية- : ”اليهود ليسوا أكثر دموية من غيرهم من المجموعات البشرية، ولكن الفكرة المجنونة التي تقول بالشعب المختار، فكرة التفوق، سواء أكانت عرقية أم دينية، هي القوة الدافعة خلف عملية الإبادة، فإذا اعتقدت أن الله قد اختار شعبك لحكم العالم، وإذا اعتقدت أن الآخرين من دون البشر، فسوف يعاقبك الإله ذاته الذي استعملت اسمه عبثا، فبدل أن تكون إنسانا طيبا، فذلك يحولك إلى مجرم مجنون“.

”لما ابتُلي اليابانيون بهذا المرض في الثلاثينيات اغتصبوا “ناكنين” وأكلوا أكباد أسراهم، ولما تملك الألمان وسواس تفوق الجنس الآري، اقترفوا المجازر، ولمّا لبس الأوروبيون الذين وصلوا إلى أمريكا تاج الجنس “المختار” كادوا أن يفنوا الشعب الأميركي الأصيل!“

وهذا التطرف الدموي المغلف بالإيديولوجية اليهودية لتأكيد التفوق العرقي يسير نحو استحالة اليهود أن يعيشوا جميعا تحت سقف إسرائيل كدولة يهودية حسب تعبير “أبرهام بورغ” (أحد زعماء حزب العمل السابقين، ورئيس كنيست سابق) الذي أكد على الظلام الذي يقود الصهاينة في كيان إسرائيل بحيث حوله إلى كيان متحدث باسم الموتى… باسم كل أولئك غير الموجودين، أكثر مما تتحدّث باسم كل أولئك الموجودين”. وعليه فقد حكم عليه “أن يعيش الصهاينة في دولة لن تعيش إلا على حد سيفها، ساجدة للموتى وتعاليم الأوساط اليهودية الأشد تطرفا وبالتالي فإن مآلها أن تحيا في حالة طوارئ دائمة كدولة رأسمالية ودينية شردت أهل الأرض وتجاهلت كل المطالب بحقهم في المصير، مشيرا إلى أن اليهود قد نسوا المحرقة… التي ينبغي لهم أن يتعلموا ضرورة عدم تكرار ما حدث” لهم ولغيرهم أيضا.

ولعل قانون القومية اليهودية الذي صدر من الكنيست الإسرائيلي سنة 2018 يؤكد بشكل حاسم وصريح على التفوق العرقي لليهود الخالص مما يفتح الباب التطهير العرقي، خاصة عرب فلسطين باعتبارهم حسب القانون الصهيوني مجموعة بشرية لا هوية ولا مكان قانوني لها في البلاد.