العلاقات الإنسانية : أي مقياس؟

مع مطلع العام الجديد، والذي سأتم فيه ربيعي الثلاثين بإذن الباري جل وعلا، تساءلت وأنا تداهمني الرغبة في الكتابة عن أي موضوع سأكتب؟ ما الموضوع الذي يمكنني أن أعبر فيه بعد ثلاثين عاما وأحس بنفسي أهلا للتعبير فيه وإبداء رأيي وسرد موقفي؟ لم أجد أفضل مما عنونت به مقالي: العلاقات.

قبل الخوض في الحديث، لنحلل العنوان… فعلى غير عادتي كتبته قبل أن أنهي المقال، وبالتالي فالأمر يستحق تحليلا مقتضبا، العلاقات الإنسانية، أي أن ما سأتحدث عنه في قادم الفقرات يخص العلاقات بشتى أنواعها، بغض النظر عن الجنس والانتماء العرقي، لكن مع استحضار المرجعية لأنه لا غنى عنها… ثم السؤال: أي مقياس؟ لم يكن اختياره اعتباطا، ففي آخر المطاف ومن خلال تجربتي الشخصية، بناء العلاقات واستمرارها بالخصوص متوقف على المعايير والمقاييس المعتمدة في اختيار الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى.

في حياة كل واحد منا، يكفي أن يتوقف الشخص لوهلة وينظر خلفه، سيجد حركية غير عادية فيما يتعلق بالعلاقات، يتفاوت عددها حسب محيط الإنسان وسنه وتجاربه، لكنها تبقى رغم ذلك مهمة جدا… دخول وخروج بشكل مستمر دون توقف، بشكل إرادي ولا إرادي، بين ما لا يملك فيه الإنسان حق الاختيار كالعائلة مثلا، وما يجد فيه نفسه بين مطرقة التخيير وسندان التسيير، وبين ما يختاره بنفسه ولنفسه. كل هذا يدخل في إكسير الحياة، لنتوقف قليلا: كل هذه الحركية وهذه العلاقات الافتراضية أو الواقعية، كم منها حقيقي؟ وما المقياس؟

سؤال يحمل صفة الإشكالية الفلسفية، لن تجد له جوابا وحيدا، وكل سيجيبك بشكل مختلف حسب تنشئته وتجاربه، فجواب من شرب من كأس الغدر ومراره يختلف عن آخر لم يذق طعمه، وجواب من عاش مع زوجه هنيئا مريئا يختلف عن من لم يكتب له نجاح علاقته الزوجية…لن أطيل في سرد الأمثلة التي تعد ولا تحصى في هذا الصدد، ولكن تجدر الإشارة أيضا إلى أن طبيعة العلاقة محدد رئيسي أيضا، فالانتظارات تختلف والتوقعات تختلف بين الصداقة (وقد كتبت عنها مقالا كاملا) والزواج والزميل في العمل، حسب ما يربط شخصين مع بعضهما، وهذا ما يجعل الأمر أكثر تعقيدا.

تعيش الإنسانية اليوم أزمة ثقة غير مسبوقة ومنقطعة النظير، فالإنسان اليوم يميل إلى حماية نفسه من الأذى قبل معرفة الطرف الآخر، انطلاقا من مبدأ أن الإنسان شرير حتى يثبت العكس، ولا يمكن الوثوق به دون وجود ضمانات، ويتحجج بذريعة تجارب أشخاص في محيطه أو تجاربه هو… فالأصدقاء لم يعودوا أصدقاء، بل حتى الزواج الذي يعتبر أكثر العلاقات قدسية أصبح حبيس مصالح وضمانات وتخوف… هل يدفعنا ذلك لعكس سؤال العنوان: أي مقياس لعدم نجاح العلاقات؟ لا يبدو ذلك وجيها كسؤال، ربما الأسباب أكثر وضوحا من المقاييس؟

مقالات مرتبطة

على أي…حتى هذا التساؤل يصعب الإجابة عنه… فموضوع العلاقات أصلا موضوع معقد وقد كنت على وعي تام بذلك قبل أن أشرع في الكتابة، ولكن من خلال تجربتي الشخصية، خلصت إلى سببين يلخصان الوضع بشكل عام:

أولهما إفراغ العلاقة من ماهيتها وجوهرها، فاليوم أصبح لفظ صديق يطلق على من هب ودب أو من عرفته بعد أسبوع، وهذا أمر غير صحي… نفس الأمر ينطبق على الزواج والذي يعتبر مؤسسة أساسها المودة والرحمة والتفاهم، والتي أصبحت حبيسة حسابات ضيقة ما أنزل الله بها من سلطان.

أما السبب الثاني فوجدت صعوبة في تسميته، قد ألخصه في غياب الجانب الروحي أو الديني في بناء العلاقة… سبق وأن أشرت أعلاه أن المرجعية حاضرة ولا يمكنني الاستغناء عنها، فالدين يضع أسس كل علاقة وسبل إنجاحها والخروج بها إلى بر الأمان، ويضع أيضا حواجز وخطوطا حمراء لا يجب الاقتراب منها لتفادي الوقوع في فشل العلاقات والبحث فيما بعد عن أسباب واهية لا أساس لها.

استغرق مني الأمر ثلاثين عاما وتجارب عديدة ومختلفة في سياقات متعددة، لأدرك أن العلاقات قبل بدئها تتحدد من خلال محاولة معرفة سياقها والانتظارات المرجوة منها، وتأطيرها بتعاليم الدين… غير ذلك، مصيرها الزوال أو جمالية البدايات ثم البرود أو السقوط في زلات لا تغتفر تدس السم في القلوب.

عاشر من هو مرآة روحك، في محاسنك وعيوبك، ومن يوضح لك إطار ما يجمعك به، ومن يخشى الله فيك ويقدرك ويحترمك… ولا تغرنك جمالية البدايات وعذوبة اللسان، ما بني على باطل فهو باطل.

في الختام، ولا تنسوا الفضل بينكم…