النرجسية ووهم التميز

يولد الإنسان على فطرته صفحة بيضاء، وينشأ مثأثرا بالوسط الذي ترعرع فيه على مجموعة من الجوانب؛ إذ يسهم في تكوين أفكاره وشخصيته وزوايا رؤيته للأمور. يمضي الإنسان عموما فترة من عمره باحثا عن التميز، مستغلا ما توفر لديه من قدرات ومهارات؛ منها الفطري ومنها ما يكتسب، وفي غالب الأحيان ينتظر منه محيطه المصغر أن يبرهن على تميزه، في المدرسة أو الجامعة أو حتى ميدان العمل.

ينجح بعض الأشخاص في التميز -في معناه المبسط- عن غيرهم بشكل نسبي، على سبيل المثال يحققون مراتب متقدمة في فصلهم الدراسي أو مدرستهم، فيصبح اسمهم مرتبطا بما يحققونه، وهنا يكمن الفرق، فمنهم من يستمد قوته من هذا التميز للعمل أكثر على تطوير ذاته وتحقيق نفسه في مجالات أخرى، مدركا أن المرتبة الأولى نسبية مرتبطة بمحيطه وأن العمل يلزم للذهاب بعيدا فيما يطمح إليه.

وهناك النوع الثاني، والذي يجعله هذا التميز يحس بنوع من الاستعلاء على من يحيط به وينقص من قدراتهم. هذا النوع الثاني، والذي تخونه ثقته في نفسه فتتحول إلى غرور في غفلة من أمره، يصبح كلامه غير قابل للرد، وأفكاره غير قابلة للنقد، وأطروحاته غير قابلة للدحض…يخيل إليه لمجرد أنه تفوق في فترة معينة أن الآخرين لا يفقهون شيئا ووجب أن يخروا ساجدين أمام الكم الهائل من المعرفة التي يملك، والتي لا تعدو أن تكون وهما…ولا تتوقف الأمور عند هذا الحد.

مقالات مرتبطة

هذا التعالي والغرور يسقطان الشخص في فخ المقارنات؛ إذ لا يستسيغ أبدا أن يفوقه أحد ما أو يدحض أطروحته أو يقنعه بعكس ما يقول ولو كان مخطئا، إذ يظن نفسه الأهم ومركز الكون لا لشيء سوى لأنه تميز في يوم من الأيام، وهذا يصيب الشخص باضطراب قد يدفعه للكذب واختلاق القصص والكسب عن طريق الآخرين في سبيل تحقيق الإحساس بالأهمية والتميز عن الآخرين.

يستيقظ الشخص يوما، وغالبا بشكل متأخر؛ فيجد نفسه لم يتقدم أي خطوة إلى الأمام، بل بقي غارقا في نرجسيته ويحسب أنه متميز بشكل كاف ليحصل دوما على ما يريد دون بذل مجهود يذكر، يلتفت فيجد من تعالى عليهم يوما قد تقدموا خطوات مهمة بالعمل والمثابرة، بينما بقي غارقا في تأليف القصص التي تكسبه الاهتمام وتجعله محط أنظار، وغالبا ما يكون سبب الاستيقاظ مؤلما.

التميز ليس عيبا؛ بل هو شيء محمود، شريطة أن يكون مصدرا يستمد منه الشخص قوته للعمل أكثر، دون نسيان مساءلة الذات بشكل مستمر؛ فمن لا يسائل نفسه ظنا منه أنه لا يحتاج ذلك، يستيقظ بعد سنوات على واقع مر كان سببا فيه “وهم التميز”.