صُبابة الطفولة

395

كثيرا ما نرجو لو أن السِّنين تتوقف عن الانسلال وتمتنع معها ماكينة العمر عن طَيِّ الأعوام بعضها ببعض ونحن صغار، والغريب أنه ونحن صغار نرجو أن نكبُر بسرعة حتى تتحقق الأحلام الموعودة بعصا سحرية من طرف طفولة لم تعهد قسوة الحياة بعد، نكبر لتغدو العصا السحرية مجرد مِكنَسة تُكنس بها الأحلام المُتراكمة على عاتق طفولة هاربة من زمن غابر.

في الطُّفولة يكون هناك مُتَّسعٌ لكل شيء، تكون الحرية لممارسة الأشياء بدون قيود، وفسحة ضخمة لأن نكون صادقين بدون أن نُحرِّف الحقيقة إلى كِذبة، أو ربما قد تكون كذبة نقلها الكبار إلينا فصدقناها ببلادة أو براءة الصغار، عكس ذلك تكون القيود التي تدفعنا لكي نتلثم تحت قناع الكذب، لذلك أعود بشريط الحياة إلى الخلف مستقرا عند لحظة لن تُتَاح لي في عمر الثلاثينيات هذا، إذ تكاد تُنسيني الالتزامات من أكون، أسترجع مسرحية هاملت لشكسبير، أجلس مُقرفصًا ممارسا بذلك طقوس الطفولة بينما تمُر المسرحية بالأبيض والأسود في التلفاز الصغير إذ يخاطب بولونيوس ابنه لابرتيس ناصحا:

أهم من أي شيء سبق كن صادقا مع نفسك لأن هذا يتبعه بالضرورة كما يتبع الليل النهار،
إنك لن تكون كاذبا على أحد.

مررتُ على المشهد في الصغر بدون أي مشاعر تتحرك في داخلي، كنت أتابع حبكة الحكاية غير آبهٍ بالمعاني العميقة التي تحملها، مُزيلاً عن ذهني كل ما يخرجني من نطاق المتعة تجاه رهق السؤال، اليوم أعود لأتوقف عند النص مستنبطا منه المعاني الخفية، لتشعل الكلمات فتيل الأسئلة في عمقي. إلى أي درجة يمكن للمرء أن يكون صادقا مع هاته النفس المتقلبة بين مدٍّ وجزر؟ نبني اليوم هذا الجواب على أرجل صلبة، فيبدو في الغد بأرجل من طين تلوح به أول عاصفة.

يقظ مضجعي السؤال المؤرق كأنه سؤال وجودي لباحث عن الله في أديان عدة خاض في بحورها، هل يمكن للإنسان أن يكون هو نفسه بدون الحاجة إلى أقنعة يتلثم بها بين الفينة والأخرى؟ أن يعيش في توبٍ شفَّاف يُبدي كل شيء؟

البطء-السرعة

أقارن حياتنا الحالية التي تطغى عليها الآلة مع أزمنة قد مضت مخلفة إيَّانا، الصحراء مُنطلق الأشياء وأصلها، هي من كانت توحي للمرء الإلهام في كل أشيائه، يكفيه أن يختلي بذرات الرَّمل ويتوقف مستظهرا عبر شبكة ذهنه الذكريات والصور القريبة منه، لا عبر آلة. هل يمكن لهذا الاختلاف الساحق بين جيل مضى إلى حتفه المجهول، وآخر لا يدري النهاية المنتظرة أن يجعل الألفاظ تحمل المعنى بمعنيين؟ لا نشبههم في شيء سوى الشيء القليل، كان الإنسان في العصر اللاَّآلي يحب بصدق، يتوقف أمام جذع شجرة أو في الصحراء لكي تهبه الكلمات حتى يتغزل بحبيبته، يستنبط الكلمات منه، حيت تكون مُغلَّفة في ركن عميق فيه، فينقضُّ عليها.

كان مما شاهدت في الصغر مسرحية لعنترة وعبلة، الحب الذي لم يكتمل، وما يزال الانطباع عنها يرافقني كالظل، عنترة أحب عبلة فأنشد فيها، كان صادقا مع كلماته، صادقا في حبه فخلد الشعر الذي كُتب بصدق وأبى إلا أن يأتينا ناقلا إلينا القصة، كان قلبه منطلق الكلمات، فسلكت الطريق نحو شفتيه، ومن تم خاضت في وُعُوُرة السبل إلى أن وصلتنا، اليوم ما عدنا نحب كعنترة، اليوم غدونا ننسخ قصيدة لا تمثلنا كتبها شخص آخر، فنتغزل بها، فكيف نحب بكلمات شخص آخر؟ الأدب أيضا لا ينقل الحقيقة كما هي، الأديب يقيِّدُ الخوف قلمه في بعض الأحيان ليحوِّر الحقيقة عن موضعها، إن الكذب أضحى من مقايس الكلام وغدا من أسباب جودته وقبحه، فليست كل تلك الأشعار التي لقت الخلود صادقة، بل لا يخلو بعضها من المبالغة.

أسترجع كلماته لأوسكار ويلد إذ يقول:

لا يكون الإنسان هو نفسه حين يكون مكشوفا، اعطوه قناعا وسيقول الحقيقة.

كم من الأقنعة ستكفي لنعلم الحقيقة، وكم من الأشباح والكتب المستعارة أسماؤهم وجب أن يكتبوا؟ فحقيقة واحدة لا تكفي.
يحتاج الكاتب دائما أن يحور الأشياء عن موضعها، وإذا قال الحقيقة فإنه يحيطها بالطلاسيم المعقدة، ومن المستحيل فكُّها، لا أعلم هل كنت صادقا وأنا أكتب روايتي؟ ربما كنت كذلك وأنا أنقل مشاعر الطفلة التي فقدت كل العائلة، أو قريبا من الصدق وأنا أنقل مشاعرها وهي تغادر الأرض التي ترعرعت فيها، ولكن هل أكون صادقا وأنا أنقل مشاعر أنثى في دورتها الشهرية، أو مشاعر امرأة يمزقها ألم المخاض بينما تلفظ من أحشائها قطعة؟ لا أعلم هل يكون المرء صادقا في نقل مشاعر لم يعشها من قبل، أليس المجال الذي تجري فيه الأحداث متخيلا، فكيف بالصدق أن يرتبط بالخيال وهذا المتخيل من صنع بشري لا يدري بنفسه قوانينه؟ كيف له أن يملك القدرة لصنع عالم متخيل ليغدو أرضية أدبية صالحة للنقد؟

أحسن الشعر أكذبه!

تتضح الصورة الآن إذ أخرج من عباءته للطفل بداخلي وأثور على الانطباع الفتي، أرمي عباءته وأعتمر عباءة العقل، حتى أنا لا أستطيع أن أكون صادقا مع نفسي، أتزحزح باستمرار بين رأي طفل ورجل، عنترة لم يكن صادقا في حب عبلة وإلا ما أنشد فيها شعرا، كان العرب يمنعون بناتهم لمن أنشد فيهن شعرا، عنترة كان يرجو الخلود بشعره أكثر من الضفر بالحبيبة، حتى المبتدأ الأول والقتل الأول في هذا العالم كان يسطره الصدق، لو لم يصدق آدم إبليس ما كان ليبتعد عن شطره حواء، وما كان قابيل ليقتل هابيل، وربما ما كنت أنا لأكتب هذه الكلمات، قضمة واحدة من فاكهة الخلد صنعت هذا العالم، يستوقفني الطفل كثير الأسئلة، ليطلق العنان لوابل الأسئلة التي لا إجابة لها، ماذا لو لم يقضم آدم هل كنا سنبقى في جنة دائمة؟

{فقلنا اهبطوا} أحدهم كذب والآخر صدق، مُنطلق العالم كان بكذبة وصدق، إذن لا يمكن أن يمضي بالصدق الأبدي ولا الكذب الأبدي، يمضي بهما دون أن يشق أحدهما طريقه بعيدا عن الآخر. أتجرد من عباءة الطفل وأسئلته المؤرقة، وأسترجع مقولته لكانط إذ يقول:

إن الصدق واجب قطعي على الإنسان تجاه أي شخص آخر.

وبهذا تراه يرفض أي كذبة تطمس خلفها الحقيقة سواء أكان الأمر إراديا أو حسن نية. يعود الصبي المشاكس بأسئلته، ماذا لو أن إبليس كان صادقا مع آدم ولم يطمس الحقيقة ليغريه بالقضمة من الفاكهة، هل كنا لنعيش في جنة دائمة يُمنع فيها الكذب ليسطو الصدق، يتعايش الإنسان فيها والشيطان سواء بدون أي صراعات، وكيف كنا سنُختبر وما الغاية المترجاة التي ستكون لدى البشري ومستقره أصلا جنة؟

يكبو الطفل في بئر الحيرة وأتلثم في عباءتي مستظهرا قولة تنقد قولة كانط، يقول بينيامين كوتستان: “إذا قلنا أن الحقيقة هي واجب مطلق، فإن مبدأ كهذا يجعل قيام أي مجتمع مستحيلا.” المجتمع لا يمكن أن يُجمع على رأي واحد، لا يمكن أن يتفق آدم وإبليس ويتفق هابيل وقابيل، فلا يقتل أحدهما الآخر، كيف كنا لنعلم طريقة الدفن الصحيحة، حقيقة واحدة أو كذبة واحدة، ما دام هناك اختلاف قائم فليس هناك صدق قطعي أو كذبة قطعية، أجدني قريبا من قولة بينيامين، لأن الصدق في الكذب يبدو ضروريا ضرورة الرَّيِّ للظمآن.

يعود الشريط مرة أخرى من تلقاء نفسه إلى الخلف، لأكتشف أن الصبي العالق في تلك الطفولة هو من ضغط زر العودة، المزارب على جنبات المنازل يتدفق ماؤها في دلاء مملوءة ويتسرب منها ليختلط بالأرض المتربة، الزقاق ضيق ومختنق بالأطفال، يكاد المارة يقضون ضعف الوقت للعبور، تارة يعترض سبيلهم طفل، وأخرى ترتطم الكرة المتربة بوجهه، أو يهيِّئ نفسه لقفزة طويلة يتجاوز بها بركة ماء عفنة.

كنت هناك في البعيد أجلس متأملا لكل ذلك، وعادتي أن أقوم بهذا الفعل بعد أن تنتهي جلستنا الأسبوعية أنا وأبي لمشاهدة مسرحية أو فيلم، لم يكن أبي يحب من يقاطعه في وقت خلوته، كان كل من يأتيه يكون مصيره الرد، إد يخبرني أن أقول له:
-راه مكاينش.

يمضي الطارق في حال سبيله ويترسخ المشهد في ذاكرتي، مُتَّعضا بالمشهد في المستقبل القريب لكي أهرب من توبيخ الأب وعقاب الأم، “راه مكاينش” أنا موجود ولكني متمرد بذلك على قولة كانط بأن الصدق واجب قطعي.