أوجُه التشابه بين محمد برادة وتوفيق الحكيم
للوهلة الأولى تبدو الرواية كسيمفونية هادئة في وصف الكاتب لراهب الفكر الذي ضَمَّته إليها الكتابة وشغلت كل حواسه حتى غدى لا يفارق الكتب والكتابة، ولا يجد مخرجًا من بين القضبان التي يُسجن نفسه داخلها، والعالم الخارجي هو نافذته الصغيرة التي تحجُبُ عنها الشمس عمارة ضخمة، ولكن المايسترو يدخل بلحن آخر أكثر صخبا ما إن يتلقى راهب الفكر هذا البريد الذي سيقلب حياته ومنه تنطلق الرواية نحو الصخب، وتشعل لهيب الأسئلة في دواخل المتلقي لهذا النص المُغري.
دائما ما أتساءل، ما نفع النص الأدبي الذي لا يشعل في دواخل القارئ عدة أسئلة من شأنها أن تزعزع استقرار المعتقدات الثابتة إلى أخرى أنضج منها؟ فتجده في سؤال ثابت وأجوبة عنه متَقَلِّبة.
هل يمكن للرجل أن يتقبل تلك الحرية للزوجة، ويفصل الحياة الزوجية عن الحياة الخاصة لكِلَا الطَّرفين؟ أليس الزواج ائتلاف للأرواح حتى تغدو روحًا؟ أم أن الطَّرفين مهما قامت أواصل المحبة بينهما يبقى الشخص في حاجة إلى مساحة يركض ويبكي فيها لوحدة، ويمارس فيها شغفه للحياة؟ وكيف بوسعنا أن نُلجِم المشاعر المُنفَلتة على بغتة منا؟
في الحقيقة إني أول ما بدأت أدخل غِمار القصة وأمسك الخيوط المترامية لأربطها ببعضها استرجعت في ذهني روايته لمحمد برادة، “رسائل من امرأة مختفية” ووجدت أوجه التشابه في أفكار الزوجة في رواية “الرباط المُقدس” وجاذبية في “رسائل من امرأة مختفية” كثيرة، مع العلم أن روايته لبرادة تنطلق من أحداث حقيقية.
ففي هاته الأخيرة نجد جاذبية ثائرة على التقاليد والعادات، ومتخوفة مُتخفِّية من ألسن الجيران، ولم تجد إلا أن تختفي في لباس الزوجية لِتُلبِّي رغباتها وترضخ لمشاعرها المُلتهبة، فالمُطلقة والعازبة لا تكاد تتحرر من رقابة الأهل حتى تجد رقابة الجيران، ونجد في الجهة الأخرى الزوجة بدورها تمقت تلك العادات، والفرق أنه إن كانت جاذبية تلثمت بغطاء الزوجية لتتحرر، فالزوجة تحررت من غطاء الزوجية لتتحرر وهنا نجد التاريخ الذي تجري فيه الأحداث في كِلا الروايتين يلعب دورا كبيرا.
نجد راهب الفكر أيضا الذي خرج من عش الكتابة وأضحى كساعي البريد بين الزوجين، وفي نفس الوقت يشبع تلك الرغبة المنفلتة منه. حين لاحت بوادر النهاية، كنت أقرا نهاية واحدة لروايتين، ولشخصين وهما راهب الفكر، وهيمان المتشوق لجاذبية، وراهب الفكر المتشوق لوحدته، والخاضع لرغباته الحِسِّية التي سُرعان ما تطردها اللذة المعنوية إذ تَرجح بكفته.
لقد وهب توفيق الحكيم كل حواسه للوصف في هذا النص البديع، فكنت أجد الضرورة لكي أتوقف عن القراءة، ولكن رغبة عجيبة كانت تجذبني نحو الكلمات، كما ينجذب الدلوُ لِقَاع البئر، وتخضعني لسلطتها، فالنص الآسِر هو من يجعلك تحت سلطته وأنت تقرؤه، لِتُحكِّم عقلك بعد أن تفوت قراءته، تلك السلطة التي أخضعتني نفسها من أخضعت البطلتين لمشاعرهما المُنفلتة، إن القارئ على موعد مع نص أخطبوطي مغرٍ، له عدة توجهات، ووجب أن يُقرأ بعين القلب.