المطار.. تجديد للروح
أعتقد أنه كلما كبر عمرنا إلا وظهرت معان كانت خفية مدسوسة خلف التجارب التي نخوضها والمشاكل والمعضلات التي تحيي فينا شخصا آخر برؤى جديدة ونظرة مختلفة للحياة، وبنفس متجددة وعت حق الوعي أقوال الفلاسفة وحكمة العقلاء وقصص الأجداد، وعلى الرغم من شغفي بالفلسفة ومعانيها وقراءتي لكتب عديدة تحوي بين طياتها حكما تسهل فهم الحياة وكيفية عيشها بطريقة خاصة كما أنني مستمع جيد لقصص الناس خصوصا قصص جدي العربي، إلا أنني لم ألمس فعليا حقيقة كل تلك الأمور إلا في المطار.
لأول مرة أحتك مع أجانب لوقت أطول، رأيت نظرة الحب الحقيقة على تقاسيم وجه فرنسية، نظرة الندم لمغربية تبكي وهي تحدث أمها على الهاتف، وعينين تذرفان دموع حزن لتونسي، ثم رأيت أما تدعو حتى كدت أن أسمع كلمات من دعائها الحقيقي، ربما كان لابنها المغترب في إسبانيا ورأيت وجه طفل بريء منعكسا على باب المصعد، كان ذاك الوجه وجهي، صدق من قال إننا لا نعرف قيمة بعضنا إلا في النهايات..
في المطار، علمت أن الراحة تكمن حقا عندما تكون خارج منطقة راحتك، وكيف لا أشعر بالخوف من سفري هذا وأنا طالب طب، أسافر وسط السنة الدراسية جالبا معي أوراق بحثي والعديد من الكتب والدروس، علمت أن جميع الأحاسيس التي تعتريني وأنا خارج منطقة راحتي ما هي إلا وهم يسببه الدماغ لأنه يميل للكسل والخمول، فيستغل الدماغ سلطته فينجرف معها الكثيرون من من لا يعلمون بعض حيله العجيبة ويبقون ضمن منطقة راحتهم متبلدي التفكير عديمي القدرة على تحليل الأشياء. فالراحة كل الراحة في جميع الأشياء خارج منطقة راحتك والتي تشعرك بعدم الأمن والأمان، قضيت لحظات انتظاري في المطار في مشاهدة الناس ومراقبة بعضهم، محاولة معرفة تفكيرهم وتحليل تحركاتهم كطفل في السابعة يريد معرفة كل شيء عن كل شيء في هذا العالم.
تنكمش الحياة وتتمدد بقدر شجاعة المرء، وتنشطر وتندمج بقدر مبدئية وأصولية المرء، عبارات لطالما سمعتها من والدي بعد سفره خارج المغرب آنذاك، وأنا كطفل صغير يريد اكتشاف كل محيطه انطلاقا من الكواركات إلى آخر نقطة من الثقب الأسود الذي نطوف حوله. أتأمل مرور الوقت والأحداث التي تملؤه ملئا تاما، تحركات الناس وتصرفاتهم ثم ملامحي التي لا أدري بأي كلمة سأصفها.
لا شيء يضاهي فعالية السفر في تجديد النفس والروح، أدركت حقا معاني كلمات جدي عن الحج، معاني القصص التي يقصها والدي عن سوريا، وإحساس بالامتلاء حتى الفيض بالحب والسعادة حينما كلمت والداي في المطار وأنا ناس لسترتي في أول مركز للتفتيش، كل تلك الأشياء ذكرتني بما كنت عليه سابقا.. كجدار ضخم، أو شجرة عاتية أو حتى كثقب أسود يمتص تلك القوة القادمة من الخارج والوقوف ندا لها، أدهش كل الدهشة كيف لي أن أتحمل كل تلك الأشياء القبيحة بهدوء تام.. كل الأشياء التي تبث فيك طاقة سلبية بغيضة.. لا بأس ببعض الألم، فقط أسكبي الشاي يا مروة ولنشاهد آخر غروب للشمس في المغرب.
عهد مسحور بين الصبا والنضج لزيارة دولة كتونس، جذبتني لتاريخها، لأنها مرت من حرب وسلام تحت حكم قبعات مختلفة تركت كل منها بصمتها وطابعها عليها، لنوع طعامها الحار، للثقافة المغاربية ولعلمانيتها ربما.. كنت في أمس الحاجة إلى جميع الذين التقيتهم وقد لا يكفيني يوم كامل في الكتابة عنهم وعن روعتهم، عن ثقافتهم ودياناتهم، عن تصرفاتهم وردات فعلهم حين أصدقهم القول والفعل في حبي لهم.
أعلم أن للكلمة الطيبة أثر عميق في النفس، وللاعتذار قيمة، ولتفهم الغير أدب وللتغاضي عن الأخطاء وعي ونضج ثم لمراعاة المشاعر نبل ولصون الود ود، جميع هاته الأشياء هي أمور عادية لكن لم أعلم أنها تحدد من أنت، فلا تبخل بالجمال فتصبح خاليا منه، هاته من بين الحكم التي تعلمتها من تصرفات للبنانية ياسمين وكيفية انتقائها للكلمات.
في الأخير، ارتأيت أن أكتب بطريقة مغايرة عن طريقتي في الكتابة، والخروج قليلا من النمط الذي أتبعه، أن أكتب لأذكر نفسي عن أحداث لا يمكن أن أنساها ووجوه لن تمحى من ذاكرتي لأن لكل فيهم لمسته الخاصة علي والتصرف الذي حفظته عليه والحكمة التي تعلمتها منه، كل هذا ولا أدري ما بال عيناي ممتلئة بالدموع؟ ألفراقهم؟ أم لسروري لأني أسعدت أناسا كثر؟ ربما لأن داخلي ضبيا يحاول أن يشق طريقه لوحده، مرة يسقط، ومرة أخرى ينهض ثم يعيد السقوط وينهض مرة أخرى قبل أن تشفى جروح أطرافه البليغة.