فتاة القُطبين: عن سيلفيا بلاث

”حين أهاجر موسم التعب هذا، سأعيد ترميم ما يشبه حين الطمأنينة.“ طالبة جامعة سميث المُتميزة تعيش حياة دراسية واِجتماعية قد تَظهرُ عادية، وهي بالفعل عادية، لأن العبقرية كما تعلمنا تكمنُ في السحر الموجود داخل التفاصيل اليومية الرتيبة والتي تتجدد وتتكرر وتخلق جمالا عتيداً داخل لحظة نفشلُ في تحدِيدها.

عاشت سيلفيا بلاث مع أُمها وأخيها الأصغر وارن دون أب، والذي فارق الحياة وهي طفلة ذات ثماني سنوات. كانت والدتها تحترفُ مهنة التدريس وسيلفيا تسعى جاهدة للتفوق والحصول على المنح الدراسية إلى جانب العمل لتوفير المال اللازم لسد نفقاتها. وفازت أعمالها وهي بسن صغيرة بجوائز محلية، كانت تُرفض قصائدها مرات لا تحصى من قبل مجلات شهيرة كمجلة نيويورك لكنها كانت تستمرُ بالكتابة وتتابع البعث للمجلات ورؤساء التحرير.

دخلت سيلفيا مصحة نفسية بعد تشخيصها بالاكتئاب؛ حيث حاولت قتل نفسها بالحبوب المنومة داخل قبو البيت، لتتعرض لحصص علاجٍ بالصدمة الكهربائية. ستخرج بعد بضعة شهور من المصحة لتكون هاته التجربة المريرة بؤرة روايتها الأولى والوحيدة؛ رواية الناقوس الزجاجي، تلك الرواية التي تتناولُ حياتها بوضوح ومعركتها القاتمة مع الجُنُون، العدو الذي يتربص داخل رأسها مهدداً كل مرة بالقدوم. ولعله اللغز العصي على الفهم في حياتها، العصي على جمهورها كذلك: كيف يجتاح الجنون حياة امرأة مبدعة وذكية وسابقة لعصرها؟

تزوجت سيلفيا من الشاعر تيد هيوز بعد مدة قصيرة من تعارفهما وقد كان لهاته العلاقة أكبر نسبة تأثير لاحقا على حياتها وعلى نفسيتها المتذبذبة. إن القارئ لرسائل سيلفيا بلاث الموجهة لأهلها وأصدقائها سيلحظ أنها كانت تولي أكبر اهتمام لمستقبل هيوز وصعوده على حساب ذاتها، مع أن الوقت سيشهدُ لاحقا أنها كانت تفوقه موهبة وإبداعاً.

مقالات مرتبطة

لقد كان هيوز بمثابة الحِمل المناسب ليتساوى ميزان الرجاحة النفسية لدى بلاث، هكذا ظلت تعتقد على مدار سنوات زواجهما السِت وتقول عنه: “يملأ تلك الهوة الحزينة الضخمة التي كنت أشعر بها لعدم وجود أبي.” مَثل هيوز الأب المفقود الذي ناجته سيلفيا طويلاً عبر قصائدها. لقد نعم الاثنان بحياة مشتركة تحتفي بالإبداع والتألق، اجتهدا بكدٍ لبلوغها، إلا أن فانوس الأحلام الزهري سريعاً ما سَيتلفُ نوره بعدما تحول الرجل العظيم الذي أحبتهُ سيلفيا بجنون وأغدقت حياتها فداه إلى أب أناني يترك زوجته وطفليه ليتنقل بين العشيقات سعيا خلف مجد ضائع. وستكون الضربة القاضية لعلاقتهما حين سيُفتتن هيوز بسيدة متزوجة تدعى آسيا ويفل، التي ستصير رفيقته الجديدة التي سيكرسُ لها مشاعره.

إن الفترة التي تلي انفصالها عن هيوز جددت الميعاد مع معاناتها السابقة، وتركتها ندا لند لتواجه أكثر مخاوفها ظلمة؛ إذ لا شك أن من عانى خلال أيامه السابقة من الهزات النفسية العنيفة والصراعات العقلية -التي حاولت الصدمة الكهربائية ترويضها- سيلاقي حتفه على يد الروابط التي راهن عليها بدمه وقلبه وقلمه لكن ضربت بتضحياتها عرض الحائط وتركت ذئاب الندم تنهشها بلا رحمة. رغم كل هاته الظروف، كانت بلاث تميل لتحليل الوقائع بالمنطق والحكمة إذ سرعان ما فهمت أن صدق حبها لن يغير من كون زوجها السابق زير نساء متقلب لا يصلح المستقبل ولا الوفاء إلى جانبه.

بعد طلاق بلاث وهيوز لملمت سيلفيا شظاياها البارزة وكافحت لتوفير مستقبل لأولادها وإطلاق العنان لموهبتها، تقول: “نظرت في خزانة ملابسي وذهلت، خلال ست سنوات من زواجي لم أشتر قط فستاناً جديداً لنفسي، أو كافأتها بتسريحة شعر جديدة! كل ملابسي تعود لأيام دراستي في كلية سميث وكانت طويلة وعادية جداً. كنت دائما أحرص على ألا أكلّف تيد شيئاً، حتى يتمكن من الكتابة ولا يضطر للعمل، وها هو الآن يواعد عارضات الأزياء بعد أن كان يقول لي إن الملابس أمر سطحي!” عارضت الحياة مشيئة بلاث، وفي لحظة نجهل تفاصيلها غادرت عالمنا هذا عبر فرن بيتها مُختنقة بغاز أحادي أوكسيد الكربون.

“لقد رفضت صحيفة نيويورك كل المسودات التي أرسلتها إليهم.” هذا مقتطفٌ من رسالة بعثتها بلاث لصديقتها إنيد مارك سنة 1955، بعد سبع وعشرين سنة، نفس الشاعرة ستفوز بجائزة البولتزر المرموقة، لكن تحديداً بعد تسعة عشرة سنة من وفاتها. وهذا ما يحصل عادة مع الفنانين السابقين لعصرهم، يعاملهم الوسط الفني بتردد وحيطة وحين تعانق عقولهم العبقرية حفنة تراب، يحتفي العالم بهم بثقة لا تهتز، كما حصل مع بودلير ونيتشه والبقية.
آمل فقط ألا ينفجر العالم قبل أن نخوض هاته التجربة” الساحرة بأكملها.” سيلفيا بلاث في رسالة إلى أخيها وارن سنة 1953

سينفجر العالم بعد أن تخوض بلاث تجارب ساحرة وأخرى أقل سحراً وأكثر مرارة، سينفجر العالم وتُطوقها يد الجنون الذي صارعت طلقاته كجندية شجاعة وكفوؤة.


1xbet casino siteleri bahis siteleri