اغترب تتجدد

3٬398

في مرحلة ما من حياتي، كنت أستقل القطار يوميا نظرا لطبيعة عملي، كنت أتعرف يوميا على الكثير من الناس منهم من تكونت معهم صداقة دامت لسنوات ومنهم من كانوا مجرد معارف. كانت تمنحني المحطة كل يوم دروسا وعبر؛ هي تماما كالحياة لكل وجهة هو موليها. كان يعجبني منظر الناس وهي تجري مسرعة مهرولة خائفة من عدم اللحاق بالقطار، وكان يدهشني تعاملهم داخل العربات رقة وأدب وعطف متبادل واستعداد للمجاملة والحرص على مشاعر الآخرين تماما كعابري سبيل رفقاء سفر لن يطول اجتماعهم.

ينطلق صوت القطار مناديًا نداءه الأخير معلنا بدء مسيرته الطويلة، كثيرون يجلسون في تأهبٍ على متنه، يسرع البعض في الصعود، ويركض آخرون محاولين اللحاق به قبل فوات الأوان كانت تجربة فريدة من نوعها. نوع من أنواع السفر الذي أصبحت شغوفة به. في كل تجربة سفر كنت أخوضها، أجد أن هناك شيئا مختلفا عن كل الأشياء التي عشتها في ذلك السفر، ولا أنساه بمرور السنوات. يغدو منهلا من مناهل الحياة التي لا بد للباحث في الحياة أن ينهال من دروسها اللامتناهية.

لقول الإمام الشافعي:
سافر تجد عوضاً عمن تفـارقه *** وانصب فإن لذيذَ العيشِ في النصبِ
إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يُفسده *** إن ساحَ طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ
وقوله أيضا:
تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلى *** وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ
تَـفَــرُّجُ هَـمٍّ وَاكْـــتِــســابُ مَـعِـيـشَـةٍ *** وَعِلْمٌ وَآدَابٌ وَصُحْبَةُ مَاجِد

كثيرة هي تجارب السفر التي خضتها ومتنوعة، بداية علاقتي بها كانت خجولة ككل البدايات، منها ما كانت ذات طابع جمعوي؛ ومنها ما كانت عائلية ومنها ما كانت للدراسة ومنها ما كانت للترفيه؛ كل نوع كان له تأثيره خاص. كان السفر إلى البوادي بالتحديد المفضل لدي؛ ذلك أنه يجردني من كل انتمائي، يلبسني لباس البسطاء السعداء والأحرار والتلقائيين الذين يرون الحياة بألوان الطيف، يجعلني أتمنى أن أكون مجرد امرأة قروية تعيش في قرية منفية تستيقظ على صوت الطبيعة الخلابة العذراء، والحيوانات الأليفة، أنام بعد صلاة العشاء وأستيقظ قبل الفجر لاستمتع بشروق الشمس خالية البال مستمتعة بالنسيم اللطيف الذي يداعب وجهي.

في البادية كل شيء حقيقي؛ الناس، تعاملهم، وطبيعتهم، وضحكهم، وكرمهم ومواعيدهم وأحاسيسهم، في البادية تتثاقل عقارب الساعة عن الدوران بسرعة لتقول لك توقف وفكر، وكأنك توقض فانوس الأسئلة الوجودية، من أنا؟ من أكون؟ ما دوري في الحياة وما هي رسالتي؟ وكأن البادية قوس وأنا سهم أستمد قوتي منها لأرجع أقوى لحلبة الحياة الصاخبة. أرتمي في أحضانها لإعادة ترتيب أوراقي في صمت. لكي أعود على بصيرة، لكي أكسر الروتين اليومي. ما تفتأ أن تمر هذه الاستراحة الذهنية البدوية حتى أرجع إلى حياتي المدنية المتعبة لأبحث عن أحلامي المعقدة لأن حياتي ليست في صفاء البوادي، لكنها صاخبة مقلقة، أجري وأجري كأنني أصارع وحشا متمكنا لا يرتاح حتى ينهكني.

النوع الثاني من السفر الذي يعجبني هو السفر الجمعوي؛ هذا النوع قريب من سفر البوادي بل وأسمى منه لأنه يتسم بالجدية والمسؤولية وإنكار الذات والتضحية؛ تتحمل به مشقة الطريق وصعوبة الظروف فقط لإسعاد الآخر تحس بفقر وجوع المغرب المنسي، تتناثر المنازل المتباعدة والمبنية بالطين والحجر على الجبال، تغمرها الثلوج فيكسوها بياض يراه أهل المدن جمالا ومتعة وسحرا، لكنه بالنسبة لسكان الجبال من القرويين قساوة ومعاناة وعزلة؛ أكثر ما يفطر القلوب ساعات مشي الأطفال للمدارس وانقطاعهم عنها أيام قساوة الظروف المناخية، ناهيك عن الجوع والبرد القارس، إضافة لذلك عدم وجود مصحات للتطبيب مما يجعلهم يعانون الأمرين. مع كل هذا، يتمسك أهل القرى بالجبال ويرون الحياة خارجها سجنا، راضون بحياتهم رغم قساوتها.

النوع الثالث من السفر هو السفر إلى الخارج، لهذا النوع نكهة خاصة لما فيه من اكتشاف لحضارات مغايرة، وأفكار وقناعات مختلفة تماما عني وعن شخصيتي، لا أحب هذا النوع من السفر كثيرا، أولا لأنه يخرجني من منطقة الراحة ويدخلني إلى عالم غامض غريب عني ومخيف أحيانا، قد تكون له فوائد كثيرة لا محالة كتطور الشخصية واكتساب مرونة في الاندماج مع مجتمع آخر، وتوسع الرؤيا واكتشاف حضارة جديدة. إلا أنني أحس بالغربة، قد أكون على خطأ في وجهة نظري نظرا لظرفية السفر أو الحقبة المرتبطة به، إلا أنني أعبر عما يخالجني بصراحة.

على سبيل الختم أقول: سافر؛ فالسَّفر يتيح فرصًا طيبةً لتحقيق الانفتاح الفكريّ والتَّأثير المتبادل نحو حياةٍ أفضل ومجتمعٍ أكثر تقبُّلاً للآخر، سافر لتقترب من نفسك لتعرف مواطن قوتك وضعفك، سافر إن كنت مستضعفا فأرض الله واسعة، وهو ما قالت فيه العرب قديمًا: اغترب تتجدد!