في النضج حياة!

في كثير من الأحيان، لا نعرف ما تخفيه تلك الابتسامة الجميلة ولا ذاك الوجه البريء، إذ لا نتقن فلسفة الحياة ولا نعرف خبايا الكل ولا البعض، نعيش على نوايانا ظنا منا أن العالم كله متشابه، نعيش على صراحتنا، وصدقنا، وأدبنا وظاهرنا لا يختلف عن باطننا ولا يتنوع عما يختلج صدورنا. أصبحنا نعيش في واقع لا ندرك فيه من الصادق معنا، ولا نحصي فيه كل من يخشى مواجهتنا وصراحتنا، ولا نعرف من يريد بنا خيرا، أهذا هو واقعنا أم نحن من أقحمنا أنفسنا فيه؟

لم نعد نعرف من المخطئ فينا نحن أم أقراننا، هل أسرفنا في احترامنا أم أن غيرنا لم يحسن تقديرنا؟ هكذا أصبح كل من يعبر حياتنا ومحيطنا يترك بصمة جميلة تبقى للأبد أو خيبة تظل مترسبة في دواخلنا، ويبقى السؤال المحير قائما: هل أسرفنا في صدق حبنا ومشاعرنا واحترامنا أم هم من أجادوا العزف على أوتار ضعفنا؟ لكن، ثمة أسئلة استفهامها أجمل بكثير من الإجابة عنها!

كل وجع في الحياة حكمة لنا؛ إذ يروض قساوتنا ويزرع الرحمة في قلوبنا ويجعلنا نتدبر في خالق الكون وسعة كرمه علينا، يعلمنا الوجع الإنسانية؛ إذ لولا جوع الفقر، وظلم الظالم، وقهر المستبد وغدر الضمير لما تعلمنا كيف نزرع طيبا فينا وفي كل أرض نجول بها. الحياة هكذا، أوجاع فخيبات فدروس فنضج، وكلما كان الوجع كبيرا كلما كان النضج أعمق، وهكذا مع كل ألم ينهش روحنا نتعلم مفاهيم الحياة ومفاهيم البشر، والأهم من هذا أننا نكتسب مناعة ليتولد النضج، والمتمثل في أن تدرك أن هناك أشياء لم تخلق لتدوم، والأشياء الجميلة الآن لن تبقى جميلة في عينيك، وأنك مع مرور الوقت حتما ستنسى الأشياء وكأنها لم تكن، وأن هناك أشخاصا يمرون في حياتك فقط ليعلموك أن تحب نفسك وتتعلم كيف تميز الصواب من الخطأ، وكيف تضع الفواصل والنقاط في مكانها الصحيح، ليجعلوا منك شخصا ناضجا لدرجة ستضحك على حماقاتك السابقة وتدرك أنه لم يصادفك شيء بلا معنى.

شعورك بالتشَتُّت الآن جراء ما مررت به، لا يعني أبدا أنك ستبقى هكذا طويلا، بطريقة ما ستأخذ الأمور مسارها الصحيح، وفوضى الأفكار في رأسك ستترتَّب، وستحل الطمأنينة محل القلق الذي يسكنك، أما القرارات التي تتخبَّط فيما بينها فسيختار الله لك أصلَحها ما دمت قد استخرته ودعوته وصبرت ولم تقابل الأذى بالأذى. إن الغد الذي كان كابوساً غير واضح المعالم سيصبح واقعا جميلا.

كل ما عليك؛ الكثير من الصبر والدعاء، والثقة الحقة في رب الأرض والسماء، ومحاولة النهوض من جديد، وكل شيء سيكون بخير، بعدها ستجد أن في النضج حياة أخرى لم تعشها من قبل، ستجد إنسانا أقوى مما كنت عليه، لن يقوى عليك شيء ليسقطك من جديد، ستنعم براحة لا مثيل لها، ساعتها ستشكر كل حزن أغرقك، ومن ثمة أعاد بناءك قطعة قطعة كسفينة نوح، وستكون مدينا لكل دمعة من قريب أو غريب أرهقتك ليل نهار، وكانت بمثابة تأديب لنفسك، كي تستعيد من فم الموت ما نجا من الروح، وستكون ممتنا لكل من أصابك بمقتل وظن أنك لن تنجو، ومع ذلك تمكنت من الفرار من ظنه لتتكون بداخلك حياة أهلكت العتمة واجتهدت بالوضوح.

ستكون ممتنا لكلّ صعوبة أحاطت بك وأكسبتك القوّة لتتخطّاها؛ وأخيرا ستقدم أعظم شكر لله عندما ستتحسس جرحك لتجده قد عُوِّض بحلم وسعادة أفضل وأحسن مما كنت متمسكا به وقابلك بالخذلان، فالإنسان لن ينضج إلا بعدما تكسوه التجارب، ولن يصل إلى النور ما لم يعبر نفق الظلام؛ فلكلّ شيء ثمين ضريبة، تلك حكمة الحياة، ولا تنس أن في النضج حياة!

1xbet casino siteleri bahis siteleri