حالة امتنان 

1٬032

أنا اليوم ممتنّة، ممتنّة لكلّ تجارب الحياة التي كُتبت في كتابي، الصعبة منها والسهلة، الحنونة والقاسية، الفقيرة والغنية، المظلمة والمشرقة، الناجحة والفاشلة، الجارحة والحاضنة، الشاقة والمريحة. أبدي امتناني لها ولكل من أخذ دورا فيها وأنسب لهم ما أنا عليه اليوم.

إذا أخذتكم معي وحاولنا تلخيص كائن الإنسان في حصيلة تجاربه الحياتية، من بنوة وأخوة وصداقة ودراسة وأسرار طفولةٍ خفّية؛ من سفر وعمل وزواج وانتماء وأنشطة ومشاريع متنوعة بحسب الاهتمامات والتوجه، فإنّنا سنفهم ردود أفعاله وطريقة تفكيره ومدى تعاطفه وقوة إيمانه وكيفية تعامله مع العالم الخارجي. يُمكن أن يتبيّن لنا منبع بعض التفاصيل على الأقل، وقد لا نفهمها طبعا لأن التركيبة الإنسانية أكثر تعقيدا من أن نلخّصها في تجارب أو نطبق عليها أي قاعدة مهما قال علماء النفس. إن كان شيء من العلم يُميّز النفس البشرية فهو الطفرات والاستثناءات.

أنا ممتنّة لتلك التجارب الإيجابية التي حفرت في قلبي بئراً من الأمل وصنعت بداخلي ضوءًا يتطلعُ إلى غد أفضل، والتي زرعت في روحي حب الخير والغير. أحببتني في الحياة وأظهرت لي جوانبها البهيّة. جعلتني هذه التجارب أقدر النعم الفائضة علينا وأستشعر وجودها وأتفنن في حمد المنّان وشكره إلى الأبد. أيقنت في روحي أنّ الله رحيم وأنّه يُحبني حبّا كبيرا ويرعاني ولا ينساني ويرضيني ولو بعد حين. إنّها مثل الحضن الذي يأتي بعد بكاء حارق وطويل، يحتضن رأسك الصغير ويطبطب على كتفك المثقل وكأنها ملك مبعوث بوصايا من الرحمان تخصّ قلبك وحده. تشعرك أنّك وحيد الله بين حشود العباد.

مقالات مرتبطة

والتجارب الصعبة دروس تستحق الامتنان أيضا. علّمتني الاستمتاع برحلة الحياة بكل محطاتها وتذبذباتها، وعلّمتني الهدوء، الكثير من الهدوء والتأنّي في التفكير والحكم والقرار. هذّبت اندفاعي ودوزنت حماسي للأشياء؛ صرت مثل الصياد الذي يرمي صنارته في المجهول ويرجع إلى الوراء ويستمتع بغمغمات البحر مع كوب شاي بارد. أسكنت في داخلي الرضا والإيمان والطمأنينة، فلا حال يدوم ولا غالب إلا الخير ولا ناصر إلا الله. أكّدت لي مرارا أنّ الله هو الملجأ وأنّ السجود هو السبيل وأنّ الدعاء هو الدواء. يلفّنا الله بلحاف قطني واقٍ ويكون معنا مثلما وعدنا أكثر من مرة في كتابه. هنا يكون حضور الله سماوي يليق بعظمته وكرمه، لا يوصف بالكلمات فهو فقط يُعاش بكل عمقه وروحانيته، ويبقى أثره على الروح إلى الأبد.

في مثل هذه التحديات يدخل الإنسان في دوّامةِ أسئلة وجودية تهدد سكينة قلبه وإيمانه. لماذا نحن؟ ماذا فعلنا لنعيش كل هذا الألم؟ هل نحن مسيّرون أم مخيّرون؟ كلها تساؤلات تشوش تفكيرنا في عز المحن وتتسلل إلى كياننا في ضل قلة حيلتنا وضعف بصيرتنا. ولكنّ الله يردّنا إليه ردا جميلا بطريقة ما، بشكل غير طبيعي يشبه المعجزات. يقبلنا بضعفنا وتيهنا وظلامنا واهتزازنا ويرمم، يقوي، يثبّت ويضيء فتيلتنا من جديد. لا يملّ من رجوعنا إليه على نفس الحال ولا يقنط، يُجيب نداءنا وهو قريب. يدبّر أمورنا عندما ننام، ويرأف بقلوبنا ويرحمنا برحمته الواسعة. إذا تأملنا في تجاربنا الحلوة والمرّة، سنجد أنّنا تحت حماية الله دائما وإن كانت اختياراتنا خاطئة، يُسيّر الأمر بحكمته ويحرك لنا السماء والأرض وينقذنا من حيث لا نفقه، لأنه الله. 

كلّما تعمّق شعور الامتنان في أرواحنا وتجذّر في قلوبنا، كلّما ازداد النضج في تعاملنا مع أمور الحياة الفانية وقلّت أمراض الشك والحيرة والغيرة، وكلّما ازدادت راحة البال وهدوء النفس ووساعة الخاطر وسلامة القلب. نجتهد ونختار ونقرر ونترك الباقي في يد المسيّر وكلنا إيمانًا أن تسييره هو الأحكم كما أثبتت ذلك تجاربنا السابقة. تتهذب النفس بالرضا وتستكين، وإن رُزق الإنسان الرضا اكتمل رزقه في الدنيا وعاش مطمئنا مسلّما مدى العمر. نرتقي بمعرفة الله وبحبه ثُم نرقى بتعاملنا مع النفس ومع الغير.

أؤمن أن الفوز العظيم في هذا الدنيا هو العيش بقلب مُسلّم وسليم، والطريق إلى ذلك يتمثل في رحلة تُغذي الامتنان في ذواتنا وتصقله لندرك قيمة كل لحظة رغم قسوتها ونتقبل حدود فهمنا أمام حكمة الله ونصبر على ما لم نحط به علما. بذلك نقلل من شقاء الدنيا على أنفسنا ونزودها بالسلام.