الوحدة: فسحة مع الذات أم سجن مع الأفكار؟
في فترة ما من فترات حياتك، ستجد نفسك وحيدا، سواء بشكل مؤقت أم استمر لوقت أطول، سواء اخترتها كضرورة ملحة لاستعادة أنفاسك وسط صخب الحياة وضغوطات حياتك اليومية، أم اضطرتك الحياة لخوضها وفرضتها عليك الظروف. هناك من يرى الوحدة نعيما وهناك من يراها شبحا يهدد استقراره ويقلل من شأنه ويحط من قدره.
تعتبر الوحدة فرصة ذهبية للتعرف على ذاتك عن قرب، ذاتك الحقيقية، وليس ذلك القناع الذي تختبئ وراءه، حيث تجد نفسك وحدك مع ذاتك ولا تملك سوى خيارين إما أن تواجه أو تواجه، نعم لا مجال للهروب، واجه نفسك ومخاوفك. في وحدتك تكتشف نفسك، تتصالح معها، تحبها، تهتم بها، تكتشف ما تحبه وما تكرهه، ما يسعدها وما لا ترتاح فيه، تكتشف أكثر اهتماماتك وميولاتك ومواهبك، تغوص فيها وفي أعماقها لتخرج اللؤلؤة المختبئة هناك، كما أنها تمنحك الهدوء وتمكنك من سماع صوتك الداخلي، ذلك الصوت الذي لا يكف عن الكلام ولكنك لا تسمعه بسبب الضجيج حولك، لكنك عندما تغلق الباب على ضجيج العالم تبقى وحدك معه في هدوء تام وكلك آذان صاغية لسماعه دون أدنى تشويش، وتمكنك من التقرب أكثر من الله ومحاسبة نفسك على أخطائها، كما تفتح عينيك لتعطيك رؤية واضحة لحياتك ومستقبلك كما تراهما، لأهدافك، ما تسعى للوصول إليه وليس ما يريده الآخرون.
كل ما ذكرناه جميل وجذاب، يغريك حقا لاعتزال هذا العالم والاستمتاع بوحدتك، لكن قد يحدث العكس تماما ما لم تحسن استغلال وحدتك وتراقب أفكارك وتعي اتجاهاتها، فبمجرد أن تفكر فكرة سلبية واحدة فقط وتؤمن بها، فأنت آنذاك قد فتحت الباب على مصراعيه للأفكار السلبية لتغزوك فلا تجد غير أفكارك لتشاركك وحدتك، فتنمو وتتكاثر الأفكار التشاؤمية مما قد يؤدي بك إلى الحزن أو الاكتئاب أو العديد من المشاكل النفسية الأخرى.
كما أن الوحدة بيئة ملائمة لإدمان العديد من العادات السيئة بما فيها إدمان مواقع التواصل الاجتماعي وما تقدمه من سعادة زائفة، ووهم أنك لست وحيدا وأنك محاط بالعديد من الأشخاص، ناهيك عن فخ المقارنات وما له من تأثير خطير على نفسيتك حيث تعتقد أن الكل سعيد إلا أنت، فتدخل في دوامة المقارنات التي لا تزيدك إلا كآبة وبؤسا. لذلك، املأ أفكارك بكل ما هو إيجابي ولا تسمح لأي فكرة سلبية أن تعكر عليك صفو عزلتك مع ذاتك، عزلة ثمينة استمتع بها وقدر قيمتها.
الوحدة ليست شيئا سيئا على الإطلاق، لا بأس أن تبقى وحيدا، لا بأس أن تغلق عليك غرفتك وتستمتع بالأشياء البسيطة التي تحب، لا بأس أن تمارس هواياتك وحدك، أن تخرج للتنزه وحيدا، أن تذهب للمطعم لتناول أكلتك المفضلة وحدك، أن تشاهد فيلما وحدك، أن تستمتع بالتسوق وحدك، أن تستمتع بكل لحظة في حياتك وحدك، وحتى لو لم تكن وحيدا فلا ضرر أن تعتزل الناس من آن لآخر كلما احتجت لركن آمن تعيد فيه ترتيب أوراق حياتك.
وأنا هنا لا أقلل من قدر الأشخاص في حياتنا وقيمتهم، العائلة، الأصدقاء، شريك الحياة، وكل شخص يمر في حياتنا ويترك فيها بصمته، هم سندنا وعوننا في هذه الحياة، وهم نور يضيء طريقنا ويضيف بهجة إلى حياتنا، لكن يجب ألا تقبل بصحبة تخسر فيها نفسك فقط لكيلا تبقى وحيدا، فالوحدة أفضل من البقاء مع الأشخاص الخطأ. جرب أن تحب وحدتك وأن تستمتع بعزلتك، وأن تكون سعيدا وحدك ولا تربط سعادتك بأحد، وكل الأشياء الرائعة داخلك أخرجها وعش بحب وإيجابية لأنك تستحق.