أزمة صانع أم أزمة صناعة

1٬054

صناعة المحتوى -حرفة- رقمية، متنوّعة المضمون، غزيرة المعارف، تهدف بطريقة رقمية إلى أَخْلَقَةِ الجيل الناشئ من اليافعين والشباب، الجيل الأكثر متابعةً للعالم الافتراضي، بواسطة عمق في طرح المحتوى، مبنيّ على معلومات دقيقة وأصليّة، ومتابعة لصيقة بالأحداث، مع تمسك بالرؤية الموضوعية، وتقديم اقتباسات واستشهادات تختزل الكثير من الرؤى والمعاني، وتعطي جاذبية لإقناع المتلقي بلغة سلسة ومتينة في آن واحد، مع جرعات خبرة وانفتاح وإبداع إضافية.

يمكن تجاهل المقدمة السابقة، والاستغناء عن نبرتها الجدية والمثالية بسؤال منطقي، هل صناعة المحتوى في أزمة؟ نعم بالطبع! وكيف لا تكون في أزمة ما دام صناع المحتوى أنفسهم في أزمة؟! هناك حالة من الاهتمام المرتفع في الآونة الأخيرة بصناعة المحتوى كمهنة رقمية عالمية التوجه، تعكس روح عصرها الحالي، عصر الرقمنة؛ فهي صناعة أتاحت الفرصة لكل فرد كي يعبّر عبر محتوى رقمي مرئي أو مكتوب أو مسموع عن إيديولوجيته. خاصة أن الواقع الهشّ ينتج أرضيّة خصبة بأحداث لا متناهية، تجعل من صانع المحتوى الوسيط الرقمي بين الواقع وبين المتلقي، تندرج مهمته ضمن مشروع إعادة استلهام وتصنيع وقائع الحياة مع ارتكازه على كثافة نشر المحتوى الموسوم بطابع التحليل السطحي، الذي تختلط فيه الحقيقة بالرأي والصدق بالتزوير، والمصاحب لفقر لغوي وضحالة تعبير إلى درجة أصبح فيها المحتوى وسيلةً لتهييج وإثارة انفعال المتلقي، لا لتوعيته وتحفيز تفكيره بطريقة إيجابية.

أما فيما يتعلق بعملية الانتقاء والاختيار لتحديد درجة انفرادية إبداع صانع المحتوى، فتتوقف على تعداد الإعجاب والمتابعين، وتقييم مضمون التعليقات المتروكة على محتوى المنشور. بكلمة أخرى، ما وصلت إليه صناعة المحتوى، يستدعي وقفة تأمل حقيقية من طرف المتلقي، التي تحتكر جزءاً كبيراً من وقته وتفكيره وحتى كيفية استهلاكه للمعلومات، هذه الوقفة ضرورية جدا، من أجل تحديد الدور الأساسي لمهنة صانع المحتوى، المتواجد عند كل مناسبة واستحقاق، بوحي من مبادرته الخاصة، ووضع قواعد وقوانين رقمية عوض ترك الأبواب مشرعة لبعض المرتزقة، ينحصر هدفهم فقط في تحقيق الربح السريع والنجومية المؤقتة، غير مكترثين إطلاقا بجودة المحتوى.

في السياق ذاته، إن المشكلة لا تكمن -في أغلب الأحيان- في المواضيع المطروحة الرديفة للواقع المعاش، بل في الصيغة اللّغويّة المستخدمة والأسلوب والخطاب الذي لا ضابط لهما، وغياب مفهوم التحليل والنقاش العميق والفعال للمحتوى. لا تكمن المشكلة في التفكير والتعبير، بل تكمن في إمكانية زيادة هوامش اللايقين، وتمرير مغالطات وأفكار جديدة تنسف بتاريخ الثوابت والموروثات بصفة عامة.

لا تكمن المشكلة في تقديم تعدّدية الآراء، وإبراز تأزمة صانع أم أزمة صناعة نوع وجهات النظر والمواقف، ودمج مختلف الطبقات الاجتماعية في بث مرئي قصير المدة، بل في افتقار المحتوى إلى روح مهنية، ولمسة أكاديمية. المشهد معروف والحالة قائمة، ومع ذلك نتطلع إلى خلق مقص رقابي رقمي، يتحقق من صوابية الرؤية وأحقية المحتويات التي ترجمت أحداث الواقع بالمأساة والنجاح، حتى نستطيع أن نعكس الواجهة الأصيلة والعمق البناء لهذه المهنة الرقمية، بعيداً عن المرتزقة والدخلاء الذين ضيقوا بشدة على أصحاب العقول وصناع الوعي الراقي وغيروا مفاهيم مجتمعية تنعكس سلباً على أفراده.