مشاهدات من ديار الرياح: جزيرة كُوكْتْشِي
السفر هو فكر وثقافة؛ نخترق به الزمان والمكان لاكتشاف حفريات العالم المتنوعة ولا أقصد فيما تبقى من آثار وأطلال، فهذا تحصيلُ حاصلٍ، إنما من نمط عيش، وتكيف سلوكي، وقواعد اجتماعية ومعتقدات وقيم وعادات وتقاليد، نُلامِسها التماس الحقيقي الذي يُنعش الروح، ويُنضج العقل في أرض يرجع تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة.
في الواقع، أعتبر سفري إلى جزيرة كُوكْتْشِي من أهم الأسفار التي قمت بها في حياتي؛ فقد كان هذا السفر بمثابة تجربة حياتية شبه متكاملة، ساعدني على محاولة فهم تجارب مختلف الأجناس البشرية بأفراحها وأتراحها. ولأصارحك أكثر عزيزي القارئ، أن ما يساعدني في نجاح أغلب أسفاري، هو أنني أحاول في كل مرة تصفية ذهني من أي ثقافة مختلفة عن التي أريد أن أكتشفها، ومن شوائب عاداتها وتقاليدها، ومحاولة عدم الوقوف عند حواجز أحكام مسبقة.
في بادئ الأمر، يجدر بي الإشارة إلى أنني أحاول أن أنقل إليك أيها القارئ الكريم بشكل تسلسلي ما عشته، وأصف ما لاحظته وأسرد ما فهمته، من خلال نمط عيش وتفكير هؤلاء الناس.
في ذلك اليوم، دامت الرحلة البحرية من مدينة تْشَانَاكَالِي التي كنت أقطن بها إلى الجزيرة ساعة و15 دقيقة تقريباً، وبالرغم من وصولي إلى ميناء كوزو وقت الظهيرة، إلّا أن الرياح كانت قويةً، بسبب الموقع الجغرافي الذي يجعل من الجزيرة موطناً للرياح على مدار 300 يوم في السنة؛ إذ من الصعب أن تُرَشَّح أي مدينة أو جزيرة في العالم بأكمله على منافستها على هذا اللقب، لأنها وببساطة تقع شمال بحر إيجه وعند مدخل خليج ساروس.
عند وصولي لم أشعر بأنني غريبة الوجه واليد واللسان، كما قال المتنبي، بل وجدت نفسي منذ البرهة الأولى محاطةً بشعب يرحب بالغرباء، ويتسم بالكثير من اللطافة والتهذيب. أردت أخد قسطٍ من الراحة! لذلك، قررت التوجّه إلى أحد الفنادق بقرية كَالِي والمعروفة قديماً بكَاسْتْرُو، وفي طريقي إلى هناك، لفت انتباهي غياب أية علامات لتطور تكنولوجي في الشوارع، كاللوحات الرقميّة المستخدمة في الإشهارات، وغياب محلات ماركات عالمية. أما الأزقة والشوارع فهي تعجّ بمتاجر صغيرة يديرها أتراك، مليئة بالرفوف المعلقة على جدرانها، حيث تُعْرَضُ عليها بشكل شبه كلي منتوجات عضوية محلية من الأغذية الأساسية والثانوية، وقد استطعت بهذه الإشارات الأولية أن ألاحظ مدى بساطة نمط عيش سكان كُوكْتْشِي، وأحدّد درجة تميّز روح الإبداع والرعاية الذي يتميز به قطاع إنتاج الغذاء الذي يجعل من الجزيرة فردوسا حقيقيا للمنتوجات العضوية، ويدين بدرجة كبيرة إلى منهج الاكتفاء الذاتي الذي يدعم المشاريع اليدوية، والأعمال الصغيرة، والاقتصاد المنزلي بهدف الانتقال من مستهلك إلى منتج، وتحسين الجودة وتحقيق إشباع محلي، وأعتقد أن هذه فكرة تعود في الأساس إلى نجاحهم في تنزيل فكرة “لتشبّت بالأرض” عبر الأجيال في أكبر جزيرة غرب تركيا.
عند اقترابي من الفندق المطلوب، أدركت أنني وسط أزقة طويلة وحارات ضيقة جغرافياً، وواسعة حضارياً، والتي من خلالها تستطيع عزيزي القارئ أن ترى مشاهداً من التاريخ العريق، وتأنس للماضي الجميل؛ فهي أرض الإغريق منذ العصور الغابرة وتوالت عليها السيطرة من طرف مجموعة من الحضارات القديمة كالرومانية، والبيزنطية، والعثمانية، التي بسطت نفوذها لأسباب عديدة خلال القرون الماضية، ما جعلها تشهد تأثيرات عبر هذه الحقب على مستوى الأحكام، والثقافة، والبنية الديمغرافية، والاجتماعية. وتبقى وراء هذه الجزيرة قصة صمود وحضارة عريقة حملت خلالها العديد من الأسماء، كان أولها إمروز، وهو اسم مشتقّ من إمبراسوس، إله الزراعة، وآخرها كُوكْتْشِي بقرار رسمي أعلن يوم 29 يوليوز 1970، ويعني جزيرة السماء الزرقاء.
إن ما سيلفت انتباهك عزيزي القارئ حين تأتي زائراً إلى أرض “التواصل عبر الزّمن” هو امتلاء المقاهي والمطاعم بجلسات مسائية بطابع الحياة اليونانية؛ حيث إن المعتقدات والعادات واللغات والتقاليد من المركبات الرئيسية لثقافة أهلها والالتزام بها يعد واجبًا نحو هذا الموروث الثقافي. وخلال هذه الجلسات يتجاذب كل الحاضرون من السكان والأجانب أطراف الحديث بشكل منفتح عن قصص من الحياة اليومية ببساطتها وصعوبتها. وفي تلك اللحظات، وقفت أمام المكان، لأتأمل سحر هاته الجلسات، وليعصف الهواء قليلاً حاملاً معه صوت موسيقى منبعثة لأغنية أسمعها للمرة الأولى وأخرى أحبها، ممتزجة بإيقاع رقص الحاضرين.