أوتار اختلاف

تعتبر ذواتنا الرمز الأسمى لاختلافنا، لعلّه يكون مبدأً خاصاً بي، لكنه بالتأكيد يمثل الخيط الأول الذي يقود إلى شِباك من العشوائيات، المرصّعة بصورٍ ذهنيةٍ. تسعى الذاتية لإثبات نفسها وفق قواعد معقلنة مبنيّة على أساس القوّة، والحريّة الشخصيّة، واستقلالية التفكير. بل وتطمح لكي تنصهر بشكل كلي في متاهة الحياة دون أن تفقد توازنها. لكن، يبقى طريقها مشفراً إلى حد ما، فقد تبقى منكمشةً وحبيسة بعض أفكارها، فهي كذلك ما دامت لا تحاول. فهل في المحاولة مثابرة، وفي المثابرة نجاح؟

في محاولتنا كَأي شخص لا يملك الخبرة، أو بعد النظر، أو على الأقل دليلاً، قد نتعثر في خطواتنا الأولى في درب متعدّد الطرقات، نمعن النظر في كل طريق، من أين المخرج؟ نفكر ونمضي لنجرب المشي فيه، وكأننا نجربه للمرة الأولى!

طريق ضعف الذات: نحمل في أذهاننا صورة ذاتنا المتكاملة، التي أُرهقنا ونحن نرسمها، ننتقي ألوانها وأنماطها بعنايةٍ فائقةٍ، نرسّخها في أذهاننا بدقّةٍ حتى لا تتلاشى، ونحاول أن نصلها بواقعنا لتتحقّق. لكن واقعنا يجعلنا نخشى غياب ذواتنا بتعدّد اختلافنا في متاهة التنوّع المجتمعي الذي أصبح متزايداً مع مرور الزّمن، ومع ظهور منصّات التواصل الاجتماعي المُفلترة بمختلف آرائها ومفاهيمها.

من المفترض أننا كلما كبرنا زادت خبرتنا، وكوننا نبحث عن قوّتنا داخل متاهتنا لا بد لنا من التمسّك ببوصلة الحقيقة. حين نختار بحريتنا اللّون الأسود للباسنا في يوم مشمس وحارّ، نكون قد مارسنا ما يوافق شخصيّتنا، لكن الغير قد يصفنا بأننا لا نملك أي حسّ ذوقي، أو أننا نتمتّع بنظرة سوداوية للحياة. عندها نحس بمدى اتّساع رقعة متاهتنا وزيادة ضعفنا. فهل علينا أن ننسلخ من أجل الارتقاء لمستوى أو ذوق الغير؟

قد تكون الإجابة عن هذا التساؤل سبباً وجيهاً بأن نبقى أَسرى لتلك الصورة الذهنية؛ لأننا لا نتحمّل ضغوط وشروط هاته العشوائية. ما نراهن عليه بكل منهجية في خطواتنا هو فك قيود الذاتية بطمس الضعف، وتخطي منطق الانكماش الذاتي لخلق توازن أكثر منطقية في أرضيّة تحكمها الفطرة الإنسانيّة. بهذه الطريقة، نكون قد صادقنا على بداية نظرةٍ أكثرَ واقعية وإيجابية وغير معهودة، من خلال الإيمان المطلق بالقدرات الذاتية، لاكتساب تجارب أكثر فأكثر من العشوائيات المتناثرة في طريقنا. نعم! إكمال الطريق شرط محتم، وإخلاله سجن مؤبد.

طريق الحرية: ها نحن نقف في منتصف درب واسع الأفق، نتحاشى السير قرب الحافة، وملامح النهاية قد بدأت تتراءى لنا، لكن بغموض. نبدأ باختبار مستوى ضعفنا، من خلال خياراتنا، وتفكيرنا، وتبعاتنا وعمقنا. ضعفنا الذي يحتاج إلى نقطة فاصلة حتى يصل مبتغاه.

مقالات مرتبطة

بعد المشي المستمر، ومحاولة التخلّص من كل السيناريوهات التي تشغل عقلنا، والتجرّد من كل المؤثّرات، وإسكات الناقد الخارجي، يصل عقلنا إلى القرار الأمثل. إن صحّ الافتراض، فعقلنا يمثل النقطة الفاصلة للوصول إلى اكتساب مهارة التفكير باستقلالية شيئا فشيئًا، مما يدفعنا إلى رؤية الأمور بكل حريّة وبشكل حيادي.

لا زالت وستظل الحريّة شرطاً ضروريًا لبلورة الاختلاف الإنساني، ومتنفساً للذاتية لتصل إلى ما تطمح إليه؛ لأن الإنسان الحر هو القادر على اختيار هدفه باستقلالية عبر المحاولات وطاقات المثابرة التي قد تختلف من إنسان لآخر، ومن جيل لآخر. فقد تتغيّر الأفكار بتكيف الإنسان في محيط غريب، باستئناسه بلحظات معيّنة، بتعرّفه على ثقافة أجنبية، أو بتعلّمه لغة جديدة. وهذا دليل على أننا -باطنيا- لسنا معرّضين فقط لمواجهة ضعفنا وإنّما لمواجهة الغيرية.

بكل رأي حصيف، يولد لدينا الاختلاف شعورًا بالتوتّر الدّاخلي لاحتكاكنا مع ذلك الهاجس الأصلي -الغيرية- مما يستدعي ضرورة تبني هذه الثقافة غير السائدة أو غير المفهومة، والتي تحتاج -فعليّاً- إلى تغيير جذري في العقلية الداخلية لكل منا وليس تغييرًا في التحقّق الخارجي فقط.

طريق الغير: ننتهي من المشي المتواصل المنهك، وعندما نصل إلى آخر الطريق، نشعر أننا كنا ندرك ما في النّهاية قبل البداية، لكننا تمادينا فقط لنجرب بأنفسنا إلى أن نصل للنهاية الحتميّة، ونكون قد رفضنا النصيحة الآتية من الغير: عشوائيات من كل طرف، تأتي بنحبها عندما نعي أننا مهما تميزنا في حياتنا، في جودة أعمالنا، وأسكتنا ذلك الناقد الخارجي، فإن ثقافة الغير قد تعطي للذات ملاذًا آخر للتفكير والتأمل في معطياته. إذن، هو إلغاء لتلك الصورة الذهنية التي تحمل في طياتها منطق إقصاء الهو، وإثبات الأنا الأعلى بكل استحقاق وجدارة. فهي صورة على كل فرد أن يُحسن حياكتها عبر تقبل الغير بكل قناعة وتأنٍّ، وهي خصال تجتمع بالفطنة لا بالرعونة.

بعيدا عن صحة تفكيري، سلبيا كان أم إيجابيا، تبقى الذاتية قضيةً بلا سجال في كل الأزمنة والأمكنة؛ فمهما انتقلنا إلى ساحات جديدة من النقاش، وارتقينا إلى أطروحات متجددة، إلا ونجد أنفسنا مكبلين بأغلال من الجهل؛ جهل يدفعنا إلى التساؤل والبحث الدائم، والانجراف وراء فكرة الشخصيّة التي تذوب في أعماق عتمة التعدّد الفكري، بسبب الصورة الكلاسيكية التي يفرضها المجتمع، أمر فطري. وتبقى تقوية الذاتية بسقف الحريّات المتاحة أمرا نسبيا، يطوي في ثناياه تفاصيل معقدة ومرهقة. قد نعي فرادتنا، لكن اختلافنا يبقى عقبة، فما بالنا بالغيرية.

إن طريقنا نحو الغيرية مسافته طويلة، لكن هذه المسافة لا تهمنا؛ إذ حتما سنقطعها ما دمنا نسير بخطى ثابتة وأفكار معقلنة؛ لأن تكوين شخصيّتنا والإصرار على اختياراتنا مبنيّ على أساس التخلّص من التّبعيّة وإبطال مفعول أصحاب النظرة الأحادية. من كل هذه العشوائيات؛ لا يمكن للغير أن يكون ذلك الكائن التي يكبت ذاتنا بامتلاكنا الحريّة الكافية، لكنه بالتأكيد ينقر أوتار اختلافنا!

1xbet casino siteleri bahis siteleri