قراءة في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ
عرف عن نجيب محفوظ، أنه الأديب المصري الذي تخطى حدود المألوف ليكون أول مؤلف عربي يحصل على جائزة نوبل للأدب، فقد كانت روايته “اللص والكلاب” رواية واقعية ذات بعد فلسفي بامتياز. حيث استوحاها من واقعة اهتزت لها مصر خلال ستينيات القرن الماضي جراء إقدام المدعو “محمود آمين سليمان” على عدة جرائم قتل انتقاما لنفسه ولشرفه. فما أحداث الرواية؟ وأين يكمن بعدها الفلسفي العبثي؟
تُصور رواية اللص والكلاب شخصية سعيد مهران، اللص الذي خرج من السجن صيفا في يوم يصادف عيد الثورة المصرية، بعد أن قضى به أربعة أعوام غدرا، لينتقم من غريمه عليش وزوجته نبوية، لإيقاعهم به، واغتنائهم على حسابه، وحرمانه من ماله، وابنته الوحيدة سناء، كي تصبح حياته ضربا من اللامعنى وتصبح الضوضاء والفوضى نزيلا قلبه المحطم وروحه المشردة. وهكذا قرر أن ينتقم من هؤلاء الكلاب إلا أن محاولاته كانت كلها بلا جدوى، لا تصيب سوى الأبرياء وينسل منها الأعداء كالشعرة من العجين.
صارت الحياة عبثا بلا معنى ولا هدف، ولقي مصيره النهائي في نهاية الرواية بنوع من اللامبالاة وعدم الاكتراث ولم يعرف لنفسه وضعا ولا موضعا، ولا غاية، وجاهد بكل قسوة ليسيطر على شيء ما ليبذل مقاومة أخيرة، ليظفر عبثا بذكرى مستعصية، وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام، فاستسلم وكان هذا آخر مشهد وصفته الرواية: “وإذا بالضوء الصارخ ينطفئ بغتة فيسود الظلام، وإذا بالرصاص يسكت فيسود الصمت، وكف عن إطلاق النار بلا إرادة، وتغلغل الصمت في الدنيا جميعا، وحلت بالعالم حالة من الغرابة المذهلة، وتساءل عن.. ولكن سرعان ما تلاشى السؤال وموضوعه على السواء بلا أدنى أمل، وظن أنهم تراجعوا وذابوا في الليل، وأنه لا بد قد انتصر، وتكاثف الظلام فلم يعد يرى شيئا.”
وقد عالجت الرواية عدة قضايا أبرزها: الخيانة الزوجية التي تمثلها نبوية زوجة سعيد، وخيانة الصداقة التي يمثلها عليش ثم خيانة المبادئ والقيم من خلال شخصية رؤوف. ينظر سعيد إلى أنَّ الخيانة الزوجيّة، وخيانة الصداقة مريرة، وصعبة لكن يُمكن احتمالها، ولكن خيانة المبادئ والقيم الفكرية غير محتملة، ويرى أنَّ الموت هو الحل الوحيد لها.
وفيما يتعلق بمحاولات سعيد للانتقام فإنها وببساطة ترمز لمحاولات الشعب -الطبقة المثقفة والبسيطة خاصة- للتصدي للكلاب الذين يدوسون على القيم والمبادئ وينتهكون حرمة الشعوب وينهبون أموالها، إلا أن تلك المحاولات تبوء بالفشل بل ولا تزيد الطين إلا بللا من خلال إصابة الأبرياء ونجاة الأعداء، مما يدخل الرواية ضمن خانة الفلسفة العبثية.
وتتجلى العبثية أيضا في عنوان الرواية حيث يشير اللص إلى سعيد رمز المقاومة الشعبية ضد الخيانة الذي وفى لقيمه ودافع عنها حتى آخر نفس، والكلاب إلى الخونة عديمي المبادئ الذين عضوا اليد التي مدت لهم وانقلبوا متنكرين لقيمهم دون أدنى اعتراف بالجميل ووفاء بالعهد، وهذا في حد ذاته مخالف للمألوف وعبثي.
وقد أتقن الكاتب اختيار شخصياته؛ بحيث ترمز كل منها لشريحة معينة من شرائح المجتمع ويعالج من خلال كل منها قضية من القضايا التي عاشها الشعب المصري خاصة والأمة العربية عامة خلال القرن العشرين جراء الخيانات السياسية والاجتماعية التي تعرضت لها، مما خلف نوعا من الغربة إزاء القريب والبعيد، الصالح والطالح، الماضي والحاضر والمستقبل. فصارت الحيرة والقلق راسخين في نفسية الإنسان العربي وأصبح العبث واللامبالاة من خصائص وجوده. فصار الوطن منفى والحب عقابا والوفاء جريمة والعدالة فضيلة من فضائل أفلاطون التي لا وجود لها إلا في مدينته المتخيلة. بل إن الرواية قد تجاوزت البعدين السياسي والاجتماعي، إلى البعد الروحي من خلال علاقة سعيد بالشيخ علي الجنيدي التي تشير إلى اضطراب علاقة الإنسان العربي بدينه وربه فأصبح يشعر بنوع من التناقض بين ما يؤمن به وما يعيشه ويمارسه من خيانة وكذب ونفاق وانتهازية أدت إلى ظهور العديد من الأمراض الاجتماعية كالسرقة والدعارة وتفشي الجريمة.
ولا يسعني سوى أن أؤكد أن رواية اللص والكلاب رواية نقدية بامتياز، تتطرق للعديد من التيمات بإبداع. فما إن شرعت في قراءتها حتى انغمست في دراسة الشخصيات وتقمص أدوارها بغية فهم ما يعيشه كل واحد، والإحساس بما يحس به فزادتني، كغيرها من الكتب، وعيا بواقع مضى ولا زلنا نتخبط وسط رفاته، ولم يبق لنا سوى أن نتغلب عليه وننتقل من حياة عبثية نحو حياة أكثر نظاما واتزانا، اتباعا لقولة نجيب: “إذا كان الماضي لا يستحق الحديث فلنصنع مستقبلا يستحق أن يحكى.”