ملاكي

عبر نافذة تلك الحافلة الصغيرة أطلت، تعمدت مذ ركوبها على اختيار ذلك المكان الذي يمكنني من متابعة تلك المناظر الخلابة والعيش معها قصة جديدة. وهل هناك أجمل من أن تجتمع الجبال بسموها، والبحار باستوائها، لتشكل لوحة فنية، أفتن من لوحات أشهر الفنانين والرسامين.

ها هو ذا يشرفنا بحلوله، مساء تزينت سماؤُه بزرقة مبهجة، وها هي الشمس قد اقترب موعد اختفائها، مشكِّلة منظرا يجذب هواة التصوير الفوتوغرافي، لتخليد ذكراها ذلك اليوم، لعلها لن تكون في حلة أبهى مجددا.

رياح خفيفة هبت، وجوه الركاب ابتهجت، وجل الأنفس اطمأنًّت. غصت في عالم آخر، ربما جسدي بقي عالقا في تلك الحافلة، التي من عهد الاستعمار، يخيل إليك أنها، لكنني حملت عقلي، وذهبت به بعيدا. فذلك اليوم البهيج، لن يكون لائقا إلا بتذكر أحداثا أكثر بهجةً ومَسَرَّةً.

لطالما رسمت صورا في مخيلتي لذلك اليوم المميز، ذلك اليوم، الذي سأقضيه رفقة أبي، ذلك اليوم الذي سيخصصه لي لا لغيري، ذلك اليوم الذي سيمسك فيه بيدي ونسير في الطرقات، ذلك اليوم الذي أراه فيه مفتخرا بي، معتزا بابنة مثلي، ذلك اليوم الذي أسمع منه كلمات الثناء أو التوبيخ، ذلك اليوم الذي أخبره فيه بهمومي ومشاكلي، فيكون ذي الأذن الصاغية، والبال المهتم، ذلك اليوم الذي أسمع فيه كلمة أبي بصوتي، ذلك اليوم، الذي أرمقه فيه من طرف الشارع، وأناديه حتى تنتفخ حبالي الصوتية، وأركض نحوه، فإذا به يجثو على قدميه، ويفتح ذراعيه، ويشجعني على زيادة سرعتي، للوصول في مدة أقل، ذلك اليوم، الذي أرافقه فيه إلى السوق الأسبوعي لاقتناء دراجة هوائية أتباهى بها أمام أبناء حيي، ذلك اليوم…لم يكن يوما واحدا ولن يكون، لأن حياتي أكثر من ذلك بكثير، لكن له، لم تكن كذلك أبدا. لا زلت عالقة في تلك الأيام التي أتمنى حدوثها، ربما هي عادية بالنسبة للبعض، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لي أبدا.

لفت انتباهي أب رفقة ابنته، استقلوا الحافلة في الموقف الموالي، كان المكان مكتظا، لم يعد سوى مقعدا فارغا بمحاذاتي.
-هل يمكننا الجلوس هنا من فضلك؟
-نعم، بالطبع.
جلس الأب أولا، ثم وضع طفلته في حضنه. عدت من جديد إلى عالمي، فذلك الانعزال غير الموعود أربكني وشتت أفكاري.
بينما أحاول البحث عن طريق العودة إلى أفكاري، باغتتني بسؤال مفاجئ:
-هل تملكين دراجة هوائية؟
أردف الأب مسرعا:
-لا تؤاخذينا يا ابنتي على الإزعاج، لقد مضى وقت طويل على وعدي لها باقتناء دراجة هوائية، ومن كثرة مشاغلي، لم أتفرغ حتى هذا اليوم، ومن شدة سرورها وابتهاجها تسأل الجميع نفس السؤال، لتعتز أمامكم بأبيها الذي اقتنى لها دراجة أحلامها بعد عناء الانتظار.

قمت بحركة رأس، أوحيت بها أنني تفهمت الأمر، ثم أضفت قائلة:
-لم أعد أملك دراجة هوائية، لكنني لا أمانع أن أقوم بجولة قصيرة بدراجتك الجديدة.
بدت على ملامح الصغيرة الاندهاش والتردد، نظرت إلي بإمعان، ثم إلى دراجتها، ثم قالت:
-ربما يوما ما، لكن دراجتي لن تسعك، إنك ضخمة الجسم.

احمرَّ وجه الأب خجلا، بينما ابتسامة غير معهودة ارتسمت على مُحياي، حاولت استدراك الموقف قائلة:
-أنا أمل، وأنت؟
-اسمي ملك، لكن أبي يناديني بملاكي.
-اسم جميل، أحببته.
-شكرا لك.

أين ذهبت تلك الصغيرة التي تنطق بما لا ينتاب عقل بشر. انتهت المحادثة بيننا، لكنها شُنَّت بين الأب وابنته. لم أسترق السمع أبدا، لكن الأب تحدث بصوت لأسمع فيه حديثهما أيضا.

-ملاكي، إن بعض الكلمات جارحة، وما يخرج من الفم لا يمكن إرجاعه أبدا، والقول الذي نطلق سراحه لن يمكننا العودة فيه مرة أخرى.
-لكن يا أبي، لم أقصد شيئا بكلامي، لقد صارحتها بما في قلبي. هل سأخدعها بالموافقة، وأنا غير راضية على ذلك بداخلي؟
– لا يا عزيزتي، لكن توجد آلاف الطرق لقول ذلك. فأنا لا أتحدث عن هذا الموقف بالذات، بل خذيها كنصيحة تلازمك في حياتك كلها.

أنصت لهما بإعجاب، لم يكن يبدو على الأب ملامح الرجل المثقف، ذي المنصب والسلطة، بل كان ذلك الرجل الصامد، القوي، الذي احتك بالحياة المريرة، الذي عانى وكابد، الذي همه الوحيد تربية طفلة على مكارم الأخلاق. ليس كل أب يخلق من موقف بسيط نصيحة. إن التربية لم تكن يوما بالأوامر والنواهي، بل بالنصائح والإرشادات.

-أمل، أنا آسفة.
-وهل يحكى به يا عزيزتي، إنك لا زلت طفلة صغيرة، ربما يوما ما ستصبحين أكثر مني حجما.

انسرَّ وجهها، وكأنها كانت تخشى رفض اعتذارها.

-إنني سعيدة جدًّا يا أمل، سأتباهى أمام أصدقائي بدراجتي ذات الحلة المشرقة.
-أدام الله سعادتك حبيبتي، إنها بالفعل درَّاجة رائعة، إنك ذات ذوق رفيع.
-إنها من اختيار أبي، إنه لا يُنافس في موضوع الدراجات الهوائية.

سادت على ملامحه الفرحة والبهجة والفخر، ثم أضاف قائلا:

-عندما تجتمع براءة الأطفال وخفة دمهم، لا يقع على عاتقنا سوى احترامهم ومسايرتهم.
أومأت برأسي موافقة.
-إننا نقترب من موقف نزولنا يا أبتي.
-نعم يا ابنتي، ظننت أنك انشغلت بالتباهي، ونسيت عنوان منزلنا، هيا، لنتحرك ببطء.
-وهل ينسى عنوان منزل السعادة؟

غادرت حضن أبيها، وذهبت مسرعة باتجاه باب الحافلة، لتعود مجددا.

-آه، لم أودعك يا صديقتي، اعذريني، إلى اللقاء يا أمل.

لوحت لها بيدي، توقفت الحافلة، ثم غادرا.

ربما غادرت أجسادهما، لكن كلماتهما لا تزال عالقة في ذهني: ملاكي، خذيها كنصيحة تلازمك في حياتك كلها، أنا آسفة، أبتي، منزل السعادة … وكأن قصة اليوم لم أتخيلها بكائنات افتراضية في عقلي، بل سُخِّرت لي كائنات بشرية تجسد أدوار مسرحيتي. غصت مجددا أتذكر ما حدث أمام عيني، حتى انزلقت الدمعات التي كتمتها أمام الصغيرة، لو أنها خانتني، لما قدرت على إشباع فضول ملاكي.

1xbet casino siteleri bahis siteleri