وهم المثالية
باعونا الوهم وتركونا بين حباله نتخبط، كذب وبهتان حسبناه حقائق مسلمة، لُمنا وعذبنا أنفسنا دون جدوى رغبة وطمعا في لمس سراب اسمه المثالية. في عصرنا الراهن، أصبح الجميع يتسابق على فيديوهات ومواضيع الرفع من الإنتاجية، وأضحى جل الناس يبذلون جهودا مدمرة لتحقيق أوهام يصنع منها آخرون خطابات ملهمة وفيديوهات مؤثرة، فإما أن تكون تحفيزا على مضاعفة ساعات العمل أو المذاكرة حثا على النجاح أو نهيا وتأنيب ضمير عن كوننا لسنا مثل بقية الناجحين مع كون الجميع بإمكانه أن يصبح مليونيرا ومثالا يحتذى به كما تنص خطاباتهم الزائفة.
بتتابع الفيديوهات، وتكاثر النصوص، والكتب، والمقالات وغيرها من المؤثرات السمعية البصرية، تترسخ الأفكار في عقولنا الباطنة وندخل جميعا في تفكير عميق وحسابات بين عقولنا وذواتنا، نبدأ في طرح الأسئلة العويصة التي لن نجد لها حلا يوما، هل ما نقوم به يوميا هو الحد الأقصى لسقف جهودنا؟ أما نضعه من أهداف هي مشبعة لنا كأناس عند وصولها أم وجب توسيع دوائر أحلامنا؟ هل ما نبذله من مجهودات خلال 24 ساعة كاف أم سنضطر لتكثيفها؟ وبذلك نغرق داخل دوامات تنتهي غالبا بالحزن والسخط عن الذات نتيجة تأنيب الضمير والإحساس بالنقص والفشل، وفي خضم كل تلك المشاعر السلبية الهزازة، نحاول جاهدين تخليص أنفسنا من سواعد الكسل، وزيادة إنتاجيتنا والرفع من مردوديتنا، وغالبا ما نقع ضحايا أناس إما عودتهم السنين على العمل بكثافة وجعلوا من ذلك روتينا عاديا لهم، أو آخرين يدعون ذلك كذبا وافتراء، فتقتنصنا سهامهم ونحاول جاهدين تمثل سلوكياتهم وتتبع نمط حياتهم، وبما أنه لا يمكن البتة إحداث تغيير بين عشية وضحاها، فكثيرا ما يكون الفشل عنوانا لمثل هاته التجارب، وبذلك نشكل عن أنفسنا أفكارا لا أساس لها من الصحة، ونظن أن بنا خللا ما ولسنا مثل بقية الناس، وكثيرا ما يؤثر ذلك عن نمط عيشنا، عن حياتنا وحتى عن عملنا أو دراستنا، ونمكث بذلك هالة سوداء مكتئبة تتنقل من هنا لهناك دون جدوى.
إنما الكمال لله عز وجل، ولا مجال المثالية في الحياة البشرية، نحن خلقنا لنخطئ ونتعلم من زلاتنا، وبذلك نمضي قدما، نتطور ونتغير، ولولا محاولات طوماس أديسون التسعة والتسعون، لما اكتشف المصباح البتة، ما وجب تعلمه هو أن هناك أشخاصا ناجحين بالفعل، لكن ليس لأي فرد في مجتمعنا أن يصبح ناجحا بين ليلة وضحاها ولو امتثل وسلك نفس طريق باقي الناجحين، فمجيؤنا لهاته الحياة مختلفين لا يمكن أن يكون عبثا، إنما ليحقق كل شخص منا مسلكا ويشق طريقا خاصا به، فالتغيير الحقيقي يبدأ من دواخلنا عندما نحس أن بإمكاننا بذل المزيد وفي جعبتنا ما يمكن استخراجه، وخطوة خطوة بصبر ممزوج بإرادة وطموح، نحقق مسعانا، ذلك أن المتعة في الرحلة إلى الهدف ليس في الوصول كما أوهمونا.
خلاصة القول، إنما ليس للإنسان إلا ما سعى هو عينه وليس غيره من بني جلدته، لذلك فالتمثل بالآخرين والدخول في قفص المقارنة لن يجدي نفعا، كل فرد بداخله جوهر ما وعليه اكتشافه واستخراجه، وليس ذاك الجوهر سحر يتحقق في رمشة عين وإنما جهد وتجارب تتكاثف عبر السنين تكاثف السحاب لنخلص إلى النجاح الفعلي والتقدم.