الأماكن: نسكنها أم هي التي تسكننا؟

846

تنتابنا مشاعر عدة متداخلة فيما بينها، وتجول بذهننا خواطر كثر حيال أماكن تربطنا بها الذكرى، ويصعب علينا تحديد ماهيتها بشكل دقيق ونقلها أو حتى شرحها، ويتخذ ذلك بعدا ذا شجون فيشدنا إليها وإلى لحظات من الماضي نوع من الحنين. شعور بالانتماء، وعن غير وعي منا نجدنا ونحن مغمورون بالحالة الشعورية ذاتها التي كنا عليها في تلك الذكرى التي انبعثت من مرقدها في غياهب الذاكرة والتي غالبا ما تكون ذات طابع سعيد.

الأمكنة ذاتها هي أكبر شاهد على تعاقب الحضارات الإنسانية على مختلف العصور، وما يتركه أفرادها من آثار وبقايا لبنايات وصروح، كعلامات تخبر بتواجدهم وبمرورهم في وقت ما يعد أوضح دليل على كينونتها في الماضي. كما تشهد الأمكنة التي نقضي بها شطرا من أعمارنا على سيرنا في الحياة، وعلى مختلف العوارض التي تمر بنا خلال هذا السير، وعلى سويعات ثمينة مع أحبة لنا، على تقدمنا وسعينا الحثيث، على تخبطاتنا ونكباتنا المتكررة، وعلى نجاحاتنا وانتصاراتنا، الشيء الذي أجده يفسر الحالة التي تغمرنا بمجرد مفارقتنا لهذه الأماكن لمدة غير يسيرة، وزيارتنا لها لاحقا في احتجاج صارخ على مدى عمق الرابطة بيننا وبينها.

شاعرية الأمر تجعلني أتأمل مليا في حجم المأساة الفلسطينية بعد النكبة خاصة، وأستشعر مدى كارثية وقعها على نفوس الفلسطينيين ضحايا التهجير القسري، والاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي بكافة ممارساته اللاإنسانية الشنيعة في حق أصحاب الأرض والحق وما جرّه من ويلات على حيواتهم، وقد عمل بلا هوادة ومذ وطأت قدماه أرض فلسطين على نهج سياسة التطهير العرقي وتهويد الأرض وعمل على تنفيذها بشكل ممنهج، وقد طفت على الواجهة مؤخرا القضية جراء أصوات الحق التي علت وأبت إلا أن تصل إلى العالم، والتي صدح بها أصحاب الحق والأرض.

تخيل أن تحيا في بيت منذ مقدمك لهذا العالم، أن تشهد فيه وأحبتك أسعد اللحظات، أن يكون شاهدا على ارتقائك في مدارج العمر وعلى أولى إنجازاتك، أتخيل حجم الانتماء الذي ستشعر به حياله ولن يراودك ولو في مرة ما يفيد أنك في يوم ما ستكون مرغما على إخلائه، بعدما احتلت أرضك من طرف كيان غاشم وسلبت وطنك عنوة، أتخيل كمية الأسى الذي يمكن أن يجتاح الإنسان الأمر الذي سيدفعه لأن يرفض، يندد ويقاوم.

لذا، حري بنا أن نستشعر بشاعة ما يحصل وأن نبدي التعاطف الكبير اللامحدود تجاه القضية الفلسطينية لعدالتها أولا، ولوعي ينبغي أن نمتلكه بحيثياتها، وذلك على سبيل تمتين الرابط الإنساني الذي يجب أن يربطنا بها وبجذورها إلى جانب الرابط المعرفي بتاريخها ومحطاتها؛ باعتبار أن تمسكنا بها وحفاظنا عليها ثابت من الثوابت، مما سييسر عملية نقلها للقادم من الأجيال وجعلها حية في أذهاننا وفي أفئدتنا في كل حين، تلافيا لما يمكن أن يطالنا لاحقا من أزمات الهوية والذاكرة جراء ممارسات عديدة باتت تفرض نفسها عنوة من تعتيم وتشويش حول الحقائق، وهذا ما يخلق وقد يخلق في القريب العاجل صورة مبتورة غير مكتملة حول القضية وجذورها الممتدة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri