في أحايين عدة يجد المرء نفسه مضطرا لأن يقرر ويختار كما تستوجب الحياة، وغالبا ما يتجنب القرارات التي تخرجه من دائرة راحته، بإيهام من عقله أن في ذلك حماية له من الأخطار. وبعد تجربة مماثلة استصعبت فيها الخروج عن دائرة راحتي وترددت كثيرا لأخطو في اللحظة الأخيرة نحو القرار الأصعب في اختيار الشعبة الدراسية، أقدمت على خوض غمار التجربة.
كانت رهبة البدايات أشد من كل ما عشته خلال الطريق، تخللها الشك في الذات وفي إمكانية الوصول، إلا أن فكرة كانت تنهضني كلما أوشكت على السقوط، تلح علي في كل مرة أن الإنسان أكثر الكائنات قدرة على التأقلم، سأتأقلم لا محالة والمحاولة النابعة عن إصرار كفيلة بأن توصلني بر النجاة. والحقيقة أنه بعد تجاوزي البدايات الصعبة، وجدتني أواصل السعي بعزيمة تقوى يوما بعد يوم رغم ما قد يعترض سبيلها من منغصات وما قد يصيبها ببعض الوهن، وذلك ما تقتضيه طبيعة النفس البشرية.
كنت أنزلق في بعض الأحايين لأسقط في فخ المقارنات البائسة التي كانت تجعلني أقزم من قدراتي عن غير وعي مني، وهذا ما كان ينتج عنه ضعف الإيمان بالنفس والسقوط التدريجي في دوامة من المشاعر والأفكار الانهزامية التي تفقد الذات كل رغبة في المواصلة وتحيل الأحلام رمادا، يتلاشى شيئا فشيئا جراء انطفاء لهيب الشغف الذي يحرك المرء ويدفعه للعطاء، ومن حسن حظي، أدركت خطورة الأمر ولو أن ذلك جاء متأخرا الشيء القليل. عملت ما أمكن على أن أحارب تلك الأفكار حتى لا تتسلل إلى الداخل أكثر فأكثر فتضعفني، صمدت، حاربت طويلا وضاعفت من جهدي وبدأت بحصاد الثمار بمجرد ما آمنت بجدوى وقيمة ما أقوم به، لأجدني أدرك سببا آخر كان يقف وراء كل ما قاسيت هو “وهم المثالية والكمال” والسعي بدون جدوى نحو المثالية التي كبلت رؤيتي لما علي القيام به وبذله من جهد.
هذا ما كان يشكل أبرز محطات المسير، وقد أدركت حينها جيدا أن الغاية تتمثل في السعي وما يصحبه من تعلم واكتساب تجارب، جراء العثرات والإخفاقات والمحاولات العديدة التي تعقبها انتصارات لذيذة ولا تنحصر في لحظة الوصول. وأنه من أكبر الجرائم التي قد يقترفها الفرد في حق نفسه، لهي الشك في قدراته وتقزيمها جراء ما قد يعيشه من فشل في مرحلة ما أو جهله بكنوزه الدفينة التي لم يحن بعد وقت تعرفه عليها من مواهب وقدرات تميزه عن غيره.
وها أنا ذي، أجد نفسي أوقن يقينا جازما بأن تلك الصعوبات التي عشتها هي التي صقلت ولا زالت تصقل جزءا مهما من شخصيتي، هي التي أكسبتني مناعة للخروج مجددا من دائرة راحتي في قرارات عديدة سأتخذها مستقبلا، على الرغم من أنني لا زلت في بداية مشوار حياتي، في مرحلة الثانوية الفارقة التي تصنع اللبنات الأساس في تكوين ذواتنا وما سنكون عليه في المستقبل وفي قادم أيامنا من حال، إلا أن تمثلاتي حول النجاح والسعي والمضي قدما في دروب الحياة بدأت تتشكل وتكتمل في منأى عن المغالطات التي يحاول الآخرون إيهامنا بها، وجعلنا أسرى نعيش وفق ما تمليه وما تقتضيه!