قراءة في رواية: كبرت ونسيت أن أنسى لبثينة العيسى
بثينة العيسة، روائية وكاتبة كويتية حاصلة على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال تخصص التمويل من كلية العلوم الإدارية في جامعة الكويت، امرأة تهتم بمناقشة وتحليل قضايا اجتماعية، خاصة التي تتعلق بحالة المرأة في مجتمعنا العربي، صدرت لها العديد من الروايات أشهرها “كبرت ونسيت أن أنسى”.
هي رواية تجسد قضايا تخص المرأة خاصة في فترة الصحوة، ظاهرة سادت الوطن العربي في الثمانينات تقوم علی تصدير وتحريم العديد من الأعمال الاعتيادية اليومية للإنسان من طرف الشيوخ تحت اسم الدين وبحجة أنها تشغل الإنسان عن طاعة الخالق.
تبدأ الرواية بفقدان فاطمة لأبويها في حادث سيارة مروع فتساق حياتها في منحی جديد؛ حيث تنتقل للعيش مع أخيها صقر، الشاب الشرقي المتسلط الذي يدعي التدين، المتشبع بالعادات والتقاليد، لا يعرف شيئا عن المرأة سوى أنها ناقصة عقل، مما يعرض فاطمة لحياة مليئة بالنكبات حيث لاحق لها في الخروج وحدها ولا ممارسة أي عمل أو هواية تحبها…لأن كل شيء خارج المطبخ بالنسبة لأخيها حرام.
تعيش فاطمة حياة مع أخيها تتلخص في تعرضها للعنف النفسي والتقييد والمنع والإجبار، تصف فاطمة نفسها قائلة: “أنا فتاة مُطيعة وطيِّعة وقابلة للتّطويع، أصعدُ الدّرجات، أجلس على الكرسيّ، أفتح فمي، آكل لقمتَيْن، أنحل، أختفي، أنا وَهْم”.
أراد صقر التخلص من مسؤولية أخته بدعوى الحفاظ علی عفتها بفرضه لصديقه المقرب فارس زوجا لها، فارس نسخة طبق الأصل عن صقر، نفس العادات نفس طريقة التفكير ونفس التخلف، بهذا تنتقل فاطمة من جحيم إلى آخر لكن بدرجة مضاعفة، فاطمة فتاة تربطها علاقة جفاء مع النسيان، منذ أن أدركت شيئا في الحياة وهي تسمع عبارة “تكبرين وتنسين” لكن النسيان أبى أن يكون ملاذا لها ولأوجاعها، تقول فاطمة: “تكبرين وتنسين. المشكلة هي أنني كبرتُ ولم أنسَ، كبرتُ ونسيتُ أن أنسى”.
رواية تجسد معنی أن يعيش الإنسان في وسط لا يتماشى مع طريقة رؤيته للعلاقات وللمواقف وللحياة ككل، معنی أن يعيش الإنسان في صراع مع الذات بين ما يريد وبين ما هو مجبر علی القيام به بسبب القيود والواجبات، لا يمكن للإنسان أن ينسی خاصة علی مستوی الأحاسيس والذات، خاصة عندما يعيش أمورا صعبة في فترة الطفولة والمراهقة، مهما كبر لن يستطيع للنسيان سبيلا وحتما جروح الطفولة تؤثر في شخصيته وحياته، الإنسان فقط يتناسی، النسيان نسبي!
أخيرا، بعد حياة مرة تجد فاطمة ملاذها في الشعر، تقول: “أحتضن دماري لأكتب..أنا مكسورة في داخلي..اجبرني يا جبار.. علمني كيف أصلي صلاة تخصني وحدي.. آتني لغتي.. آتني لغتي يا رب اللغة.. آتني لغتي كي أبتهل لك.. لك السبحانُ والمجد.. آتني لغتي جميعها..آتنيها كي أفكر، كي أكون..كي أعرفني، كي أعرفك”.
تضعني بثينة هنا بأسلوبها الشاعري المتمكن أمام تساؤلات ملحة: ماذا يفعل المرء بنفسه عندما يفقد أشخاصه المقربين، عندما يفقد أمانه الوحيد معهم، عندما يعجز وقلبه يلهج أن يطير حيثما يشاء؟ ماذا يفعل المرء بنفسه إذا كان في المرحلة بين الطفولة والرشد وقلبه يتوق بشوق لشيء يستفزه خاصة وإن كان الشعر، خاصة وإن كان في وسط متطرف يحرم ويمنع كل الأشياء باسم العادات والأعراف والتدين، ماذا تراه سيتصرف مع شوقه؟
الرواية بالرغم من أنها تقليدية وقصة معتادة إلا أنها بمثابة صرخة شاعرية قوية تجاه المجتمع الشرقي ومكنوناته المتطرفة والمتسلطة على الإنسان عامة، مجتمع فيه الرجل والمرأة كلاهما ضحايا تربية ومعتقدات وأعراف، مجتمع يستنكر بكاء الرجل وتعبيره عن مشاعره ويستكثر على المرأة حريتها في الاعتقاد والتفكير ويجبرها أن تكون خاضعة مهما علا سقف أحلامها وأن تعيش دائما تحت “ظل رجل” ليقال عنها أنها سيدة ناجحة ومحترمة.