قراءة في رواية: ضياع في سوهو لِكولن ويلسن

1٬361

كولن ويلسون مؤلف وفيلسوف إنكليزي، كتب قرابة 100 كتاب وأصدر أول مؤلفاته “اللامنتمي” في الخامسة والعشرين من عمره.   تأثرت مؤلفاته بالعديد من الشخصيات الثقافية الأدبية البارزة أمثال: ألبير كامو، وجان بول سارتر، وإرنست همنغواي، وفيودور دوستويفسكي، وفريدريك نيتشه وغيرهم.

كولن ويلسن أحد أنصار الفلسفة الوجودية، وهي اتجاه يغلو في تفرد وتميز الإنسان ويبالغ في التأكيد أنه صاحب تفكير وإرادة واختيار لا يحتاج إلى أي نظام يكبح مزاجه وسلوكه وتقديسه للنفس، وهي فلسفة تقوم على الحرية المطلقة للفرد في السلوك والممارسة كما يقول آرفلين “فلسفة تدور حول الفرد بكيانه المادي الملموس، وهذه نقطة قوتها ونقطة ضعفها في الآن ذاته.” (آرفلين، 2014: 10).

يقدمها كولن ويلسن على ضوء دراسة واسعة للصراع الطبقي بين البورجوازيين والبوهيميين في لندن بتحليله لشخصية “هاري” في روايته “ضياع في سوهو “. قرر هاري ترك بلدته وأسرته وعمله والتوجه إلى لندن بغية الحظو بتجربة جديدة تحيي معالم الحياة داخله وتقتل الكآبة الملمة بمشاعره.

رغم أنه في البداية لم يدرِ كيف يخطو خطواته الأولى نحو الأشياء الغامضة فلا وجه يعرفه ولا إنسان يتحدث معه، إلا أنه أصر على خوض تجربة العيش في لندن…لندن، مدينة الانفعالات الكثيرة، تشعر الإنسان بأنه غير موجود، مثال لسحق القيم الإنسانية، عبارة عن انفعالات واحتقار للأشخاص الذين ينقصهم الإحساس بضرورة حياتهم، الناس في لندن ترهقهم مشاغلهم الخاصة، لا يعنى أحدهم بالآخر يقاتلون بعضهم بعضا وهم يشقون طرقهم في الحياة بين الحشود، يهرولون في ممرات مخازن البقالة المعروفة باسم “اخدم نفسك” لندن مخيفة وسخيفة وفردانية ليست حضارة “لما يتوق الناس للعيش فيها”.

تعرف هاري في حانة بشارع سوهو على جيمس ودورين، جيمس رسام موهوب، شخصيته مرحة وسلوكه ساحر، جرأته نادرة، أكثر الناس ثقة بالنفس وأقلهم انقساما للشخصية، ببساطة إنسان مترع بالتجارب. ودورين، فتاة نيوزيلاندية رحلها والدها إلى لندن خوفا من الفضيحة وهي فتاة ساذجة قوية بريئة أحيانا وترهب الناس منها أحيانا أخرى، وحيدة جل ما يهمها الارتباط بصداقة قوية تعوضها الأشياء المفقودة في حياتها.

بعد تلاثة أسابيع قضاها هاري متسكعا في لندن مع جيمس عرف خلالها شخصيات عدة وأوثق علاقته مع دورين، اكتشف أن نفسه برمت من حياة اللاجدوى والتجوال اللاهادف دون مأوى ومقابلة أشخاص عبثيين؛ فالقلق يفعم نفسه ويشعره بالتعب ولندن بوجوهها الشاحبة أرهقت أعصابه وأصابته بكآبة فقرر أن يصارح جيمس أنه لا يطمح للعيش حياة البوهيميين الجافة والمملة والفوضوية التي يؤمن بها، لا يريد أن يكون بوهيميا، لا يحس بالنهار، لا يعرف للحركة واليقظة والسعي معنى، يفترس الكسل ويكتنفه الغموض.

هاري قذف بنفسه إلى لندن باحثا عن حرية أسطورية يريد أن يمتصها ويعيشها بعمق قبل أن تجف عروقه، وجد نفسه في النهاية يعيش بغرفة مع دورين ويعمل أسبوعيا بدوام جزئي في إحدى دور النشر، أجل يعيش حياة عادية، الحياة التي هرب منها وجد نفسه داخلها لكنه هذه المرة محاط بمشاعر الزهو والانتعاش ووهج الحياة الحرة، يغمر قلبه ليكتشف حينها أن “الحرية فكرة، الحرية إحساس”، أن لا معنى للحياة إن لم نتجه إلى أشياء سامية تحمل في طياتها حياة موسيقية هادئة خاضعة للجهد والذكاء.

بعد قراءتي لهذه الرواية أدركت أن لكل منا معضلته سواء كانت الحرية وبحث الإنسان عن شعور الوجود والتواجد كــ “هاري” أو كانت التمرد والرغبة في عدم الخنوع والخضوع للمادة كـ “جيمس” أو ربما تكون البحث عن علاقات حقيقية ثابتة كـ “دورين” تمنحها قيمة الشعور بالحاجة للتعويض بغية إيجاد طريق لنفسها، فكلما كانت هذه المعضلات حقيقية كلما صعب التعامل معها على مستوى حافة رؤيا وتصورات كل إنسان على حدة، فلكل منا معضلته حسب ظروفه الحياتية، ما يجعل الإمساك بالتجربة بالطريقة ذاتها غير ممكن؛ فالقدر مبهم كشخص غامض لا نراه لكنه يلعب مع كل منا وعلى حدة ألعوبة تختلف ولا تنظم نفسها حتى يراها الإنسان ويخطط لهزيمتها وهنا يكمن التحدي.

أدركت من هذه الرواية أن الإنسان في الحياة عامة إما أن يكون مكتوبا برصة قلم ثابتة متجذرة أو هو مكتوب برصة قلم واهية، يمر مرور الكرام، ما يحدد رصة القلم مقدار شعور الإنسان بتواجده ما يجعلنا هنا نتساءل عن مقدار صدقنا وصراحتنا مع أنفسنا وحضورنا. فمن منا لم تراوده أسئلة ملحة عن الوجود الإنساني، أسئلة تقض مضجعه، من منا لم يبحث عن فردانيته الممتدة في الأنا، من منا لم يعش حيرته في كونه حيا.

في ظل ترسبات الطفولة والتجارب الحياتية، تطفل الغير على الخصوصية الفردية، في ظل مجتمع محبط مكبل بالتقاليد، في ظل أنظمة ديكتاتورية استبدادية تساومنا على كل شيء، فهل الإنسان حقا “حر” وكيف يفهم الإنسان طبيعته وحريته إذ لم يجد وجبة طعام.