سمر صوفي!

714

تنبيه: (لا بد من الإشارة إلى أن هذا الحوار دار بين طالبين عَتَقِيين في مدرسة عتيقة بسوس العالمة. ومعلوم أن أرزاق الطلبة هناك مرتبطة بوفور الإحسان “التبرعات” أو ندرته).

في ذات خميس بهي -وهو يوم عطلة عند العتقيين-، استنار ليله بضياء شمعة أدى إلى إيقادها انقطاع التيار، تسامر اثنان من الطلبة وهما يرتشفان الشاي، فطار الحديث بهما كل مطار، حتى خطر في خَلَدِ أحدهما أن يقول لصاحبه وهو يحاوره: أرى يد الإحسان قد قصرت عنا، وتلك والله مصيبة.

أطرق الثاني حينا ثم قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

قال الأول متضايقا: ها أنت عدت إلى عادتك في الإغراب والإبعاد! وما كسْبُ أيدينا؟

قال الثاني: والله ما أغربت ولا أبعدت، وإنك لتعلم ما أريد. ثم استرسل في الحديث قائلا: إنك موقن بأن ما بنا من نعمة فمن الله، وإنك لخير من يعلم أن الشكر عِقَال النعم، وتأمل قول الله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، ثم تدبر مرتين قوله: ﴿الشكور﴾، وقل لي كيف يكون شكورا من لا يكاد يكون شاكرا؟

قال الأول: قلت لك إنك عدت إلى الإغراب والإبعاد!

قال الثاني: إنما أنا مذكر، ولست بعاتب ولا مسيطر، ولعل الله يُسمعك هذا القول فتتبع أحسنه، وليس بعزيز عليه أن يجعلك من أولي الألباب المهتدين.

مقالات مرتبطة

قال الأول مسَلِّما: فهات ما عندك إذن!

قال الثاني: إن الإحسان لا يُنتجه إلا مثله، ولا يكون مستحقا له إلا من اتصف به، وأحسبك لم تنس قول الله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وليس إحسانك الساعة وأنت في المدرسة إلا أن تأتي ما أتيت لأجله هنا، فإن قصرت في الإجادة والإحسان، قصرت عنك يد الإحسان، ومن لا وِرد له لا وارد له.

ثم أرجع بك إلى حيث بدأنا وأسألك: كيف يشكو قصور الإحسان من هو في شأنك؟ قد اصطُفيت لوراثة الكتاب، وأراد الله بك خيرا ففقهك في الدين، فهل ثمة إحسان يفوق هذا الإحسان؟ إنك إن قلتَ نعم وحسبتَ أن أحدا هو أفضل شأنا من شأنك، لتكونن من الذين عظموا ما حقر الله وحقروا ما عظم الله، وإني أعيذك بالله أن تكون منهم، فلا تكن من الغافلين.

ثم إن كان الإحسان الذي تطلب هو محض الرزق، ورأيت أنه قد قُدر عليك فيه، فهلا أخبرتني كيف كنت تُرزق مذ قدمت إلى هذه المدرسة؟ وهل سعيت يوما سعيا يجلب لك رزقا في مجرى العادة؟ إنك لتعلم أن الله رازقك كما يرزق الطير، وما من يوم إلا ولا تعلم ما الله رازقك فيه، وإنك لا تسعى سعي المُعطى إجارته في آخر النهار، ولكن الله يرزقك الرزق الحسن، وكان فضل الله عليك عظيما، فإن أنت أنكرت كل هذا الفضل، كنت كمن يعطى الدر ولا يبالي به، وكنت جاهلا أو جحودا.

إن الطمأنينة التي ترجوها نفسك، لن تجد لها سبيلا ما لم تنظر بعين البصر والبصيرة إلى ما أنت فيه من الفضل، وتذر ما لست من أجله هنا، أوليس الذي دبر أمرك من قبل والساعةَ، قادر على أن يدبر أمرك بعد؟

أطرق المتكلم حينا، وذكر أن صاحبه يجد على فقيه المدرسة موجدة، فشرع يقول: ثم إن من يطلب الإحسان ويبغي نواله، يتعين عليه أن يعترف ابتداء بما هو فيه من الفضل، وقد قدمت لك بعض فضل الله عليك، وأما أجلها فهو أن قيض الله لك شيخا عارف المسالك، يقيك ظلم الجهل الحوالك، ولم تدركه بحول منك ولا قوة، ولكن الله يسر وأعان، وإن من لم يشكر الناس لم يشكر الله، فاحمد الله واشكر له، ثم اشكر لمن علمك، وسل الله له طول البقاء، ودوام العطاء.

أتَتِ النار على فتيل الشمعة، وحل الظلام، وانكفأ كل منهما إلى حيث ينام، يتردد في نفسيهما قول الله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.