رسائل غريب: الرسالة الخامسة – كآبة الكِبر ودهشة الأطفال

مرحبا صديقي الغريب؛

لقد طالنا الغياب مجددا، واشتقت إليك صديقي، اشتقت إلى فسحتنا هذه. ألم تشتق أنت؟

هل سبق لك يا صديقي أن تساءلت كيف نستطيع مواجهة موجات الكآبة التي تصادفنا في دربنا الطويل هذا، كيف نجعل من خيوط الأسى، ألوانا صافية نزين بها جدراننا المحطمة، نرسم فوقها ابتسامة وحبا، نمضي دون أثقال، دون أحمال، كما تحلق الفراشات وتغني العصافير كل صباح، كما ينام الأطفال، دون أي شيء يتعب صدورهم.

يحصل يا صديقي أن تختنق، ألا تكون قادرا على التنفس، كأن الدنيا قد ضاقت بك، بل ضاقت وتضيق حتى خنقتك. يحدث يا صديقي أن تصطدم بالحائط في أعز أوقاتك، وفي أشد لحظاتك سرورا، تهوي أمامك كل الذكريات، تصمت فيك رغبة الحياة، وتعبر شاردا إلى هاوية الطريق.

أتختار الصمت حينئذ، فتنسى ما صار، وكل شيء قد شق صدرك، أم أنك تقف باحثا عن أي شيء قد يحيي فيك لون الحياة من جديد. أتمضي مثقلا، دون أي محاولة منك لإيجاد حل ما، أم أنك لست بذلك الضعف، ربما تكون قويا كما تقول، وربما تغدو ضعيفا للحظات.

لكننا نشترك يا صديقي في ضعفنا أكثر من القوة، والضعف ليس صفة هينة سيئة، بل هو حاجة. الضعف بمعنى الوقوع، السقوط، بكل المعاني التي قد تتساقط أمام مخيلتك الآن، ربما الحزن، الكآبة، البكاء، الأنين، الشرود. شيء من هذا القبيل.  فهذا الضعف حاجة يا صديقي، دواء نتجرع مرارته لنشفى من كل الأشياء التي قد تتعبنا، قد تتساءل؛ هل يمكننا اعتبار الضعف عكس القوة؟

بالنسبة لي يا صديقي، أرى الضعف بداية القوة، وليس ضدا له. فمسار القوة لا بد أن يبدأ من لحظة الضعف، لحظة الانكسار، لحظة السقوط. وكما ينظر ابن خلدون إلى خط تطور الدول عبر التاريخ، من انحطاط إلى ازدهار ثم سقوط، أرى أن الإنسان يمر من نفس المراحل، باختلاف بسيط في المرحلة الأخيرة. فالإنسان فرد، والدولة جماعة، ولعل عوامل سقوط الدول قد تتحكم فيها أشياء عديدة تتعلق بالجماعة والكيانات.

لكن الفرد قادر على مواجهة كل الأشياء التي قد تواجهه، قادر على إجبار هذه العوامل على الخضوع وفتح مجال لشغفه اللامحدود. أنت وأنا يا صديقي، قادران على جمع شتاتنا لنبني منه كل أحلامنا، فما الإنسان إلا خليط من الذكريات، وما الذكريات سوى لحظات ضعف وقوة، لحظات انكسار وشموخ.

فحين أنكسر، أُجرح، أسقُط، أضعُف، كأني ضحية حرب ما، أعُد خسائري واحدة واحدة، وأتساءل: هل أخرج من حربي هذه سليما معافى؟ تسطع أمامي كل مؤشرات الحياة، وكل علامات الشغف التي تراودني عن نفسي، ففي عز لحظات الضعف تلك، ستشع من قلبك شعاع الحب والسلام.

لعل من الأشياء التي تجعلنا نقاوم ونواجه البؤس، البحث عن الجمال، عن السلام في كل المناحي، أن تجوب الدروب مفتشا عن شيء يبعث في نفسك الطمأنينة، أن تقلب كل التفاصيل وتنقب عن السكون والسكينة.

مقالات مرتبطة

هل سبق لك يا صديقي أن تحسست دهشة الطفولة فيك؟ أن تنبهر بالأشياء التي قد لا يلقي لها أحد بالا، أن تبتسم دون سبب، فقط لذكرى قد نشطت في مخيلتك، أن تصمت طويلا أمام البحر مثلا، أو أمام منظر طبيعي خلاب، تستهويك حينها الحياة، وترى بقلبك أشياء لا تراها عينك، فقد صرت دهشا كالأطفال، صافيا كثوب أبيض، بريئا كأرواحهم. دهشة الأطفال؛ كم أحب هذه الكلمة، وكم صرت أعشق معناها يوما بعد يوم. كلما اكتشفت أن كل الناس يملكون هذه الملكة الربانية.

أؤمن بشدة أن الجمال يكمن في كل شيء في الحياة، وأتذكر مقولة منسوبة للحكيم الصيني كونفوشيوس: “الجمال موجود في كل شيء، لكنه ليس مرئيا للجميع.” وأؤمن أن من تغمره دهشة الأطفال يستطيع رؤية الجمال في الأشياء، يغلب كل أفكاره السيئة ويترك لهذه الدهشة حرية مواجهة البؤس في حياته.

دعني أسألك مجددا يا صديقي؛ هل سبق لك أن تأملت السماء؟ أن ترفع عينيك، تصمت طويلا، تنظر إلى السماء بعيون الأطفال، أن تترك كل شيء خلفك، وتحلق كالفراشات، وتبحث عن الجمال، عن الله؟

أما أنا يا صديقي فقد كبر فيّ لون السماء منذ الصغر، وكلما رفعت رأسي لأشاهدها، سرت في جسدي رعشة طفولية. هل هي الفطرة الأولى التي زرعها الله فينا، الحب الأول، العشق الأبدي، الخفقان الأول، سمه ما شئت. كأني قد ولدت لأعشق السماء، فأترك قلبي يحمل لونها، لعله يبقى صافيا حتى النهاية.  قد تتساءل، لكن السماء تغدو مظلمة بالليل؟ وهنا يكمن الجمال، فالسماء تتزين بلونين مختلفين، متناقضين، كما تتناقض فينا المعاني والعواطف. فالليل له زينته الخاصة، وكلما رأيت شهابا يخترق صف النجوم ذات مساء، أتابعه بشغف، لعلي أدرك تلك اللوحة العظيمة التي تهزمني، وترسم فيّ مجددا لوحة جديدة. والنجوم هناك، تسطع كل واحدة بما تملك من جمال، وسط كل ذلك الظلام، الذي ننساه حينها، فقد فتنتنا النجوم واستيقظت فينا براءة تلثمت بغطاء الكِبر. نعم، أنا أنهزم أمام جمال السماء، وهي هزيمة تجعلني منتشيا عكس كل الهزائم الأخرى، هل أسميه انتصارا، لا أفعل، لأني مهزوم ولا حول لي ولا قوة أمام تلك الحقيقة.

هل سبق لكم أن أحسستم بقبلة الشمس حين تشرق وحين تغرب؟ ألاحظتم رقص السحاب في صحن السماء بالنهار، واحدة تمسك يد الأخرى، تتمايلن شرقا وغربا، والشمس تبتسم هناك، تلزم ركنها، فتمضي ببطء دون أن تفسد مزاج الغيم!

ربما يمر المشهد دون أن تلقوا له بالا، لكن هؤلاء الذين يحملون أرواحهم في أكف أيديهم، يرون الحُسن هنا وهناك، ولا يبخلون أن يهدوا الآخرين لون الحب، فيصبون للجميع قطرة وقطرتين وثلاث. هؤلاء الذين يرون الحياة بعين عاشقة، روح فريدة، قلب مغترب ينبض بالجمال. هؤلاء الذين غمرتهم دهشة الأطفال.

ربما نكون منهم وقد لا نكون، لكني أتمنى أن نفعل يا صديقي، لعلنا نستأنس برنين الطبيعة، ونتزين بلون السماء، فيكبر فينا عشق الله وحب الحياة. نواجه البؤس ونبني من الضعف قوة، نرتب أحلامنا واحدا واحدا، دون أي ملل.

والسماء مجرد لوحة واحدة بين عدد كبير من الأشياء القادرة على استمالة قلوبنا، من المشاهد التي تحادثنا دون أي صوت، تتسرب إلى باطننا، تخاطب فينا الطفل والعاشق والمؤمن، من معجزات الله القادرة على إحياء الحب في صدورنا، ورسم لون الحياة بين تجاعيدنا.

هذه مجرد لمحة من الكم الهائل من التفاصيل التي نهملها، فنهمل أنفسنا، وننسى كيف تستطيع البساطة أن تحمينا من الشرور، وكيف تبلغ طبيعة فينا مبلغ السلام، وكيف استطاعت الأشياء المصطنعة أن تبعدنا عن الحقيقة.

نلتقي بعد زمن يا صديقي. فلتكن عاشقا، ولتتحسس فيك دهشة الأطفال. دمت سالما صديقي الغريب.

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri