فلسطين: أين محلك من نصرة القضية المقدسية؟

945
اعتدتُ -منذ طفولتي- أن تكون كلمة فلسطين مصاحبة لمشاعر الحزن، المؤازرة أو الشفقة ربما…مشاعر سطحية قد نبادلها لأي مسكين في الشارع! مع أني لم أكن أدري الحقيقة الفعلية لما يجري هناك؛ فقط صور لجرحى أو قتلى/شهداء، وأصوات الاستغاثة هي كل الصورة التي كوَّنتها عن فلسطين آنذاك.
في حقيقة الأمر، هناك العديد ممن يشاركونني نفس التجربة؛ بعضهم تغيرت نظرته مع تغير المرحلة العمرية، ففَهِمَ أكثر عن القضية الفلسطينية، وكثير ممن بقي على جهله رغم كل الأصوات والصور التي تواجهك أينما ولَّيت بصرك على مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام. لا يهم الآن إلى أي فريق تنتمي، لكن الأهم هو ما يأتي.
ما علاقتي أنا-كمواطن غير فلسطيني- بالقضية الفلسطينية!؟ أليس من العجيب أن نشهد أناسا من أنحاء العالم لا تجمعهم صلة بالقضية الفلسطينية سوى أن الأخيرة قضية إنسانية، ويثورون دفاعا عنها وعن حقوق أهلها، في حين لا تعترينا نحن أهل القضية أية مشاعر تجاه نفس المشاهد؟ ثم، ما دوري-كمسلم- في نصرة الأقصى والقضية المقدسية؟
بداية، لا نتحدث هنا عن البعد التاريخي للقضية الفلسطينية أو عن جذور المؤامرة بين الصهاينة والانتذاب البريطاني، أو عن مراحل النكبة -التي للإشارة فقط قد أعلنت انطلاقتها قبل 1948م بعشرات السنين-. حديثنا عن القضية كشأن إسلامي مقدس ومرتبط بتاريخ المسلمين أجمعين دون تفرقة بين عرب وسواهم؛ حديثنا عن المسجد الأقصى كثاني قبلة للمسلمين على اختلاف جنسياتهم، وثالث مسجد تشد إليه الرحال كما رُوي عن النبي ﷺ. عن قضية ثابتة لا عن مناسبة أو حدث نمُر عليه مرة في السنة أو ما شابه، أو ما يصطلح عليه بـ “الترند” الذي يصبح في غياهب النسيان فور انخفاض نسب المشاركات على الفايسبوك وإنستغرام… إنها قضية عقدية ثابتة والتفاعل معها عبادة وواجب ديني، لا عمل تتكرم به على جموع الإنسانية.
فلسطين، التي قال عنها د.راغب السرجاني في كتابه فلسطين وواجبات الأمة: “إنها الأرض التي لا يصلح أن تخرج من أذهاننا، ولا يصح أن تهمَل مهما كانت مشاغلنا وأعمالنا.” تستحق منا أن نبادر بنصرتها بكل ما أوتينا من وسائل من أقواها (الجهاد)، إلى أقلها قوة. لا تستصغر جهدا، فكما استطاع إنسان قبلك أن ينسج من غصن زيتون أشعاراً تتغنى بصمود أشجار الأقصى وشموخها أمام كل اقتحام، تستطيع أنت أن ترفع كلمتك سلاحا في وجه المحتل؛ نؤمن جميعا بقوة القلم وبقوة ما أنتجه من قصائد ومسرحيات وأفلام كان لها بليغ الأثر على مر التاريخ. وكما أن هناك ممن سبقونا من جعل أسوار عكَّا تردد كلماته على مسمع كل من دخلها: “ما بْبيعَ لعكا…بالدنيا كلها”، وآخرون شكلوا كاميرات بعيون مقدسية: وثَّقوا الاعتداءات، وأساليب الظلم والقمع، أو جمَّعوا في أرشيفات ما يستحق أن يُنقل من جيل لجيل (تفاصيل القرى المهجَّرة، رائحة تراب الأرض التي تحملها ذاكرة الجدّات) أشياء جوهرية قد تبدو للسطحيين لا معنى ولا قيمة لها، لكنها تساهم في أن **لا ننسى** ونبقى على اتصال دائم مع قضيتنا.
قد تقول: لكني لست كاتبا، أو مسرحيا، أو مصورا…فكيف أكون سببا في نصرة القضية المقدسية؟ لا بأس، سواء أكنتَ فنانا، مهندسا، معلما، زراعيا… أيا كانت مهنتك فأنت على احتكاك دائم بالبشر، ومهمتك توعيتهم بأهمية هذه القضية بالنسبة لنا. ليس بالضرورة بإلقاء الخطب والمواعظ، قد تكون التوعية بإهداء كتاب عن القضية الفلسطينية، أو التذكير بأحاديث النبي ﷺ عن فضل الصلاة بالمسجد الأقصى، أو عن حادثة الإسراء والمعراج. مهمتنا أن نزيد من توعية الأجيال الحالية والمقبلة بحقيقة ما وقع/ يقع بفلسطين، أن نعلم أطفالنا أن الفلسطينيين لم يبيعوا أرضهم طوعا كما يزعم الكثيرون أو أنهم تخلوا عنها لصالح الصهاينة، أن ننظف أدمغتهم من المغالطات والصور المزيفة التي تم تناقلها بيننا لزمن طويل. ويكون ذلك بشكل أساسي بالقراءة والتعلم المستمر عن كل ما يخص القضية الفلسطينية. كيف ستدافع عن قضية لا تعلم حتى متى بدأت أو عن أرض لا تعرف ما شهدته من اعتداء ونضال في المقابل؟
إذن، فالمقاومة تبدأ من نفسك أولا؛ تحرَّر من جهلك قبل كل شيء، تعلَّم لتُعلِّم! ولا ننسى؛ الهمَّةَ الهمة، فالسيف بيد ضعيف الهمة لا ينفع! الحديث عن الهمة والإرادة يقودنا إلى شرح بعض المغالطات التي نحسبها “نحن” تضعف شوكتنا وتقتل إرادتنا؛
أولها: أن نظن أن النصر بيد فرد منا وأن هزيمة ذلك “الفرد” هي هزيمة نهائية لنا لا سبيل للمقاومة بعدها، وهذا أكبر خطأ وجب تصحيحه. إن النصر بيد الله وحده وما نحن سوى أسباب لتحقيق هذا النصر: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ} [الأنفال: 17] ولكن للسعي أجر، وكلما زاد السعي ازداد وتضاعف الأجر.
أما المغالطة الثانية؛ فهي أن نقصر الدور على فئة محددة من المسلمين، كأن نقول إن للعرب الفضل الأكبر في نصرة الأقصى وأن غيرهم من المسلمين لهم فضل أدنى في ذلك، أو أن نمنع عمن يتبدّى أنهم بعيدون عن تعاليم الشريعة أن ينصروا القضية المقدسية بدعوى أن علاقتهم برب العالمين ضعيفة. وتصحيح ذلك أن لا أحد يعلم ما تكنُّه قلوب الآخرين من حب لله وغيرة على الإسلام، وقد يكون أحدنا في بداية قربه من الله عز وجل أو قد يكون دفاعه عن القضية المقدسية سببا في تحسن إسلامه، لكن بهذا الكلام قد نحبطه ونقضي على همته.
{وَلاَ تَفَرَّقُوا} هي دعوة قرآنية صريحة إلى الوحدة لأن التفرقة أول أسباب الهزيمة. نعلم جميعا أن ما عاشه أسلافنا بالأبيض والأسود، نعيشه اليوم بألوان شتى، لا جديد يذكر غير تناوب وتغير المشرفين على الاحتلال والتعذيب. لكن ما لا نعلمه أننا باتحادنا أقوى وقد نحرز أهدافاً ما كنا نظن أننا قد نصيبها يوما (ولعلَّ انتصار غزة الأخير خير دليل على كلامي). نحفظ جميعا عن ظهر قلب: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] ولكن السؤال الأهم: أين محلك من هذا النصر؟!