الترجمة: إشكالية فلسفية
شكلت الترجمة ولا تزال موضوعا فلسفيا منذ فجر التاريخ، لما كان لها من فضل كبير في تحويل معارف عديدة من لغات وثقافات إلى مجتمعات أخرى، الشيء الذي أسهم بشكل كبير في انتقال العلوم والفلسفة على وجه الخصوص إلى حضارات وثقافات عديدة كالحضارة الإسلامية مثلا؛ فهذه الأخيرة تدين بالشيء الكثير للترجمة في أغلب ما وصلت إليه كونها متحت من معين أمهات كتب اليونان والفرس والروم، ترجمات همت ميادين عديدة كالطب والرياضيات والفلك والسياسة إلى غير ذلك من الحقول المعرفية، إضافة لما ترجم عن الروم والفرس لما كانت حاجة العرب ملحة لما شهده التطور العلمي والتقني في الغرب آنذاك.
جاحد من ينكر دور الترجمة في إثراء الحياة المعرفية لأي مجتمع كان لأنها أدت وستؤدي دورا رياديا في سلم التطور البشري. إن الترجمة هي تلك الآلية التي بها تستطيع الدول السائرة في طريق النمو مواكبة التطور التقني والتكنلوجي المتسارع، أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالسهر على نقل المعارف والعلوم إلى لغات أبنائها -لغتهم الأم- عملية كفيلة بتجسير الهوة بين حضارات قطعت أشواطا عديدة في دروب المعرفة والرقي.
لقد أصبح لِزامًا على الدولِ الصاعدة رصد جميع الإمكانيات لترجمة كتب المجتمعات المتطورة ذات السبق المعرفي والتكنولوجي، إن هي وضعت كأولى أولوياتها مجاراة منسوب الإبداع والابتكار في شتى المجالات، غاية يمكن تحقيقها بتشجيع البحث العلمي وخلق مختبرات ومعاهد تعنى خصيصا بالترجمة وتكوين متخصصين في هذا الميدان إسوة باليابان مثلا، السوق الدي غزى كل شعوب العالم نتيجة ترجمات يومية لشتى صنوف الكتب والمؤلفات.
غني عن البيان أن “الترجمة هي نقل الكلام أو النص من لغته الأصلية التي كُتب بها إلى لغة أخرى، شريطة الالتزام بنقل الكلمات بطريقة صحيحة لتتشابه مع معانيها الأصلية، حتى لا يؤدي إلى تغيير في معنى النص الأصلي.” إلا أن هذا التعريف يبقى قاصرا على الإحاطة بمختلف أنواع الترجمة كالترجمة الحرفية (La traduction littérale) وترجمة المعنى (La traduction du sens) والترجمة التحريرية والتي تفيد في معناها ترجمة نص من لغة إلى نفس اللغة (Une traduction explicative) إلى غير ذلك من أشكال الترجمات الممكنة.
وفي اللسان الفرنسي (Le Robert micro)، يعرف فعل (ترجم/Traduire) كما يلي:
“Traduire، c’est faire ce qui était énoncé dans une langue le soit dans une autre, en tendant à l’équivalence de sens et de valeurs des deux énoncés”.
مع توالي الحاجة للترجمة، طرحت إشكالات عديدة شكلت نقطا خلافية بين محترفي نقل المعارف والنصوص، وبين من جعلوا من الأمر موضوعا فلسفيا استأثر باهتمام كبير، وأهم هذه الإشكالات انزياح المعنى (Le glissement du sens)، وذلك مرده لمجموعة من العوامل أهمها نوع الترجمة المتبعة والمترجم نفسه (Le sujet / Le traducteur)، بالإضافة إلى حضور مؤثرات أخرى كالثقافي والديني والتركيب اللغوي في فعل الترجمة.
كل هذه المؤثرات تجعل المترجم بين مطرقة مضمون النص الأصلي وسندان التضحية بالجانب الأسلوبي (Le coté stylistique). تجدر الإشارة إلى أن الانتقال من لغة إلى لغة معينة قد يصادف وجود مفردات عديدة كل واحدة منها لها مدلول خاص في سياق مخصوص، فنجد مثلا كلمة “عين” تترجم إلى الفرنسية بـ ” Un œil”، وبِـ ” Une source” عندما يتعلق الأمر بالحديث عن “عين ماء”.
مثال آخر ذلك الذي نجده في ترجمة عنوان “L’esprit des lois” للفيلسوف التنويري Montesquieu، عند ترجمة العنوان للغة العربية بـ “روح القوانين”، فكلمة “روح” تقابلها في اللسان الفرنسي مفردة ” Âme”. أما عند ترجمة نفس العنوان إلى اللغة الإنجليزية مثلا، فسنجده ترجم بـ “The Spirit of the Laws”. أما المفكر والفيلسوف المغربي المثير للجدل بمقارباته بترجماته، فقد حاول ترجمة الكوجيطو الديكارتي “Le cogito cartésien” “Je pense donc je suis” في كتابه “فقه الفلسفة” إلى “أُنظر تجد”. ترجمة علَل صاحبها بأن نقل المعرفة من لغة إلى أخرى يستوجب الأخذ بعين الاعتبار البنية اللغوية للجملة أو المفردة، وبأن للمفردة حمولة دِلالية La charge sémantique du concept إلى غير ذلك من الإشكالات التي تطرحها الترجمة بشتى أنواعها. ولتفادي هذه الانزياحات التي قد تبتعد عن المعنى المتضمن في النص الأصلي، صار من الضروري الإلمام بالسياقات الفكرية والتاريخية والفلسفية التي أنتج النص في إطارها صونا للمعنى المراد التعبير عنه “Le sens véhiculé et/ou voulu”.
الملاحظ في عالمنا العربي نقص دعم الترجمات والمترجمين، بل غيابُه في بلدان عديدة، إلا من مبادرات شخصية من حالات يتملكها حب وعشق الترجمة، الأمرُ الذي يطرحُ سُؤالا عريضا: كيف نسايِرُ تقدم الشعوبِ المتسارع نحو السبق التكنولوجي والعلمي؟ كيف يمكننا الاستفادة من إنتاجات الأغيارِ في ظل منظومة تعليم عربية لا تُراوحُ أسفل التصنيفات العالمية؟ أسئلة عديدة تبقى معلقة في انتظار أن تُعطى للترجمة تلك القيمة الاعتبارية التي يجب أن تحظى بها في المدارس والجامعات والمراكز البحثية.