اللغة العربية: وعاء الهوية والثقافة والحضارة

803

لا ينازعنا أحد في القول بأن اللغة هي وعاء الهوية ووعاء الحضارة والثقافة، هي ارتباط بالماضي وتأريخ للحاضر واستشراف للمستقبل، بل قد نجزم بالقول إن اللغة هي الحضارة، والحضارة هي اللغة، فإن كانت في أوجها وتوهجها في تصدير الثقافة وإغناء البحث العلمي فاعلم أن تلك اللغة هي لغة حضارة، وإن حصل فأهملت وتركت وأصبحت مهجورة فاعلم أن أناسها أناس في تخلف.

إن اللغة هي الوسيلة الوحيدة للتواصل والتفاهم والاتصال، هي الملجأ الوحيد للتعبير عن الكينونة والفكر والرأي، إنها ذلك الجامع الموحد للأمة، والغارس القوي لروح المواطنة والوطنية في نفوس شعب لغوي موحد.

كانت اللغة على مر التاريخ ناقلا مهما للتراث الإنساني والديني والاجتماعي، فتعاقبت على هذه الأرض لغات عديدة ساهمت في تطوير العقل الإنساني. ولسنة خلقها الله جعل الألسنة مختلفة ومتنوعة، حتى تتثاقف وتتعاون وتتعارف وتشارك مع غيرها ما لديها من فكر وفلسفة ونور. وإن من الألسنة الخالدة والباقية ببقاء الحياة على هذه الأرض لسان الضاد، لسانه لغة القرآن لغة العربية. ما أجمل الحروف التي ركبت بها -العربية- عين رمز العروبة وراء رواء للعقول وباء باب للعلوم وياء ياقوتة اللغات وتاء تاريخ متصل، لغة يعتز بها العربي ويفخر بها لما لها من أساليب تعبيرية لغوية بديعة وكلمات متفردة متعددة راقية، تعبر عن الشعور بأدق الكلمات فتصفه لك حتى كأنه يبدو لك ماثلا أمامك يتغشى قلبك.

لطالما كانت اللغة العربية حاملة مستوعبة لثقافات الأرض، وإن التاريخ يشهد أنها كانت في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد لغة العلم والحضارة، وأن العلم في ذلك الزمان أصبح يتكلم بالعربية لمدة تزيد عن ثمانية قرون، وهذا يدل على أن الأمة كانت قوية فقويت معها اللغة. لكن، ومع ذلك الخفوت الحضاري والهبوط العلمي، أصبحت اللغة العربية لغة مهمشة ومهملة؛ إذ أصبحنا اليوم نشهد حالة من الردة اللغوية لدى شرائح اجتماعية في عالمنا العربي، وتجد أنهم قد انسلخوا من لغتهم وتنكروا لها بلغة أخرى يعتبرونها رمز الحضارة والرقي الاجتماعي والازدهار المادي والعلو المعرفي.

اللغة العربية والهوية:

لا شك أن اللغة هي الفكر وهي الهوية، ولما كانت اللغة العربية هي لسان الوحي ولغة الرحمن في القرآن، فإنها بلا ريب ستظل لغة الزمان والمكان، فلا يضرها حقد الحاقدين، ولا ينقص من رفعتها ريب المرتابين، ولا يشينها كيد الكائدين، فهي قبل أن تكون وسيلة للاتصال والتواصل، كانت ولا تزال هوية اجتماعية حضارية مرتبطة بماضي الإنسان وحاضره ومستقبله، ولذلك سميت الحضارة العربية الإسلامية بحضارة الكلمة، ولا يليق بالفرد داخل الدولة التي توصف بالعربية، أن يزعم أنه مواطن عربي بالادعاء الظاهر ولسانه الناطق يتكلم لغة محلية دارجة عامية، مفصولة عن الهوية العربية المشتركة، ولا آفاق لها داخل مختلف مناحي الحياة الإدارية والعلمية والوظائفية للدولة، أو أن يتلفظ بلسان عامي تداولي مشوه، ممزوج بمصطلحات لغوية أجنبية لاجتياح الذات العربية وحبسها في نطاقها حتى لا تتنمى وتلحق بالركب.

ولأن الهوية هي الجوهر فلا يمكننا أن ننفصل عن جوهرنا، عن لغتنا، عن ماضينا، ولا يجوز أن نجعل من اللغات الدخيلة أساسا لهويتنا والحامل الأول لفكرنا، لأن “الأمة التي تتعلم كلها بلغةٍ غير لغتها لا يمكن أن تفكر إلا بفكر أجنبي عنها، فالعلم إذا أخذته بلغتك أخذته، وإذا أخذته بلغة غيرك أخذك، واللغة لا تقوى إلا بقوة أهلها ولا تضعف إلا بضعفهم.”

اللغة العربية والتعليم:

لا يخفى على ناظركم أن اللغة العربية أصبحت مقصية في بلدنا في المجال التعليمي، بسبب الوضع الفرنكوفوني المتسيد والمهيمن والإقصائي للغات الأخرى الوطنية ضد منطق الهوية والسيادة والنهضة والكرامة…وإن هدف من يسعى لتنحية اللغة العربية إنما هدفه تنحية الإسلام، كما كان هدف أونسيم روكولو –أول من استعمل مصطلح الفرنكوفونية-. وإن تلك الجملة المشهورة “من يتكلم الفرنسية يشتري الفرنسية” «qui parle français achète français» أي مثلا كل فرنك تنفقه على الفرنسية يعطي ربح فرنكات مضاعفة، لتنم عن الوضع اللامعقول لهذه اللغة الدخيلة.

وقد أثر هذا الوضع على الجانب التعليمي فغزى القطاع كله، وأصبحت المدارس المغربية مدارس فرنسية على أرض مغربية، تكون جيلا جديدا لتصدره لأراضيها، جيلا تابعا لأهوائها…إن اللغات الأجنبية على العموم لا يجب بتاتا أن تكون لغات تدريس، وإنما يجب أن تكون في وضعها الطبيعي وهو أن تدرس وفقط. لا يجب أن نخلط بين لغات التدريس، وتدريس اللغات كما الحال اليوم في بلدنا، وإلا فسنتأخر دراسيا 5 سنوات أو يزيد بسبب هذه الازدواجية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، اللغات الأجنبية نقبل أن تكون لغات تواصل وتثاقف وتعارف نعم، لكن أن تتجاوز ذلك إلى تعليم الفكر وتعليم الأساسيات بها فهذا أمر غير مقبول وسيكون وبالا وخطرا على التلميذ.

لعل من صفوة القول، إعادة التأكيد على أن اللغة العربية خالدة بخلود القرآن وباقية ببقاء هذا الدين، فرغم كيد الكائدين ومكرهم إلا أن اللغة ستنهض كما ستنهض هذه الأمة، ولا بد أن نشير إلى أنها لا يمكن أن ترقى لوضعها السابق إلا بالعمل الجاد والنضالي في سبيل إحيائها وإرجاع هيبتها وقوتها. دون أن نغفل أن اللغات الأجنبية لغات يجب تعلمها وتعجيل الكلام بها، لما لها من فوائد جمة في نقل المعرفة إلى عالمنا وفي التواصل مع الآخر وفي الإعانة على نقده. يجب علينا أن نعتمد على الترجمة كوسيلة ناجعة عند انعدام الوسائل في اكتساب العلم الغربي وثقافته وتكنولوجيته حتى نتمكن من نقدها، وتطويرها وتجاوزها.

اللغة العربية لغة ضاد لغة اشتقاق وترادف وتضاد وتعريب وإيجاز واستيعاب. فأنّى لها أن تأفل وتنطفئ وتموت، هي باقية فأعينوها بالعض عليها بالنواجد والتحدث بها والتعريف بها والافتخار بها وجعلها أولى اللغات وأسماها.