قراءة في كتاب بنات حواء الثلاث لإليف شفق
تعتبر رواية “بنات حواء الثلاث” “Havva’nın Üç Kızı” إحدى أهم الروايات للكاتبة والروائية التركية إليف شفق “Elif ŞAFAK”، المولودة عام 1971 في “ستراسبورغ ـ فرنسا”. بالرغم من أنها ابنة الفيلسوف التركي نوري بيلغين، إلاّ أنها فضّلت استخدام اسمها الأول واسم والدتها شفق أتيمان التي عملت كدبلوماسية، كاسم أدبي تنشر به أعمالها. تقع الرواية في حدود 418 صفحة، وقام بترجمتها المترجم التركي أومجا كوروغان/ مع الكاتبة إلى اللّغة التركية، وأُصدرت أول طبعة عن دار النشر “دوغان” باسطنبول في شهر يونيو عام 2016.
تندرج الرواية ضمن مجموعة الروايات التي بنيت على مقام أدبيّ سردي، ذي منعطف فلسفي، حيث ينبلج الفكر الفلسفي وهو يتشابك تشابكاً عميقاً مع منعرج التقاليد والأعراف للشرق الأوسط، وللمجتمع التركي بشكلٍ خاص، مما يُحدث سجالاً ظاهرًا في أغلب فصولها.
تتكوّن الرواية من أربعة فصول تتجاذبها ثنائية الإضاءة والتعتيم. وتتبنى طابع تداخل الزمان والمكان، حيث تعتمد في البنية على المراوحة بين إسطنبول وأكسفورد في جميع فصولها، التي تبدأ أحداثها عام 1980 وتنتهي في عام 2016. تضمنت فصول الرواية، سرد حياة امرأة تركية مسلمة تدعى “نازبيري نالبانت أوغلو” كانت في طريقها إلى حفل عشاء لأسرة تركية من الطبقة البورجوازية برفقة ابنتها، -أوقفت سيارتها بسبب الإشارة الضوئية- وفي تلك الأثناء، قام متسول بسرقة حقيبة يدها، فقرّرت الترجّل من السيّارة ومطاردته لاستعادتها.
وأثناء جدال طال في زقاق من الأزقة المهمشة لمدينة إسطنبول، أفرغ السارق الحقيبة من محتوياتها ووقعت صورة على الأرض، تظهر فيها ثلاث بنات وأستاذهنّ في الجامعة. ما دفع الشخصية الرئيسية بشكل لا إرادي لاستعادة ذكرياتها. في الزّمن المستعاد، تروي شفق حياة بيري المتردّدة في قرارها، والحائرة بأفكارها، والمضطربة في علاقاتها، والتي ظلّت لسنوات مكبلةً بقيود خلافات إيديولوجية، عاشتها في بيت أسرتها، ما بين ”منصور” الأب المتحرِّر والمنفتح، و “سلمى” الأم المتشدِّدة، و “أوميد” الأخ الأكبر الذي يدعم التّيار اليساري. ثم تكشف الستار عن ماضٍ عاشته في جامعة أكسفورد، مع صديقتيْها المتناقضتين، الإيرانية “شيرين” الملحدة، والمصرية “منى” المؤمنة.
تبعاً لتراتبية الأفكار، تتطرّق شفق في القسم الحادي عشر من الفصل الأول، الذي عنونته برقصة برفقة عزرائيل؛ إلى تراكم مشاعر مختلطة في نفسية بيري، التي عرفت العالم مليئا بالمتناقضات منذ المهد، وعاشت في عالم أشخاص وأشياء قوامه الاختلاف والتنوّع والتعقيد. وعليه، فإن احتياج بيري ارتكز في إرسال رسالة إلى الله تحمل في مضمونها شكرًا وتوسّلاً، وتبث فيها الحيرة في الوصول إلى مفهوم الإيمان وطبيعته، عبر إقامة صلاة بطريقة شكلية.
تتوالى الأحداث وتتطور، لتلتحق بيري فيما بعد بجامعة أكسفورد. انتقال جعلها تعتقد أن الجانب الآخر من العالم سيمهِّد لها السبيل إلى إيجاد الهوية المفقودة، التي ستهجر بها المنطقة الرمادية، وتخفي بها التشتّت العقلي والنفسي الذي عانته. لكنَّ عمق الحوارات العقلية، واختلاط المفاهيم ازداد زخما وصعوبة أكثر عبر علاقتها بشيرين المتحرّرة والجامحة في سلوكاتها، والتي تعلن باستمرارية إنكارها لله الواحد، أما منى، فهي تمثل النموذج النقيض.
وتبين تطورات الظروف، كيفية توجُّه الطالبات الثلاث لاختيار منهج الأستاذ أزور، المتخصِّص في مادة الإلهيات، لإكمال دراستهن الجامعية. في نفس السياق، تستعرض شفق أفكار الأستاذ آزور المبنية على أهمّيّة احتياج الإنسان إلى الدين والشك معاً في الحياة، وقد أرسى عوالم نظريته حول عبثية الحوار بين الملحدين والمتدينين، حيث إن الإصرار على اليقين المطلق، يمنع الإنسان من ولوج طريق ثالث؛ مبدؤه حوار فكري متجدد يرفع من مستوى التحدّيات العقلية لبلوغ أصول التفكير النقدي. مستعيناً بذلك بأبيات من الشعر للشاعر الفارسي حافظ.
تبرز شفق، التناقضات الظاهرة على مستوى الانتماء إلى بيئات وثقافات مختلفة، بين الطالبات اللائي أصبحن صديقات السكن. وعليه، فتنوّع وجهات النظر وتضاربها وبروز طابع الاختلاف الذي أصبح صفة ملازمة للأفكار والمواقف أفضى إلى تزايد الشقاق في علاقة الصداقة خصوصاً بين منى وشيرين.
يتواصل مسار الرواية، لتجد بيري نفسها في عزلة عن العالم، ما جعلها تحاول الانتحار بسبب الأستاذ أزور، وتعود في النهاية إلى الوطن دون إتمام دراستها. أما في سياق الخط الدرامي الثاني، الذي يروي زمن الحاضر، فبَعد قطيعة دامت سنوات، تُجري بيري اتصالًا هاتفيًا، لتحادث أزور في نتائج الأحداث الماضية التي ظلت شبه عقيمة، ويعترف أنها كانت تمتلك منذ البداية أهواء الثلاث لبرتراند راسل؛ الحب، والمعرفة والعاطفة. كما أن اللقاء التاريخي الذي جمع بين اثنين من أساطير الفكر الإسلامي، كان فرصة أنهت به شفق الرواية، عن طريق إلقاء بيري، لمحاضرة فلسفية -لتكون بيري هي الأستاذة، وأزور الطالب- مضمونها نقطة اختلاف واتفاق على أسس طرق المعرفة، بين ابن عربي وابن رشد.
فالأول، سلك طريق البحث العقلاني والبصيرة الصوفية. أما الثاني، فكان يتبنى التفكير التأملي الذي يعتمد على المنطق القويم، ومنهجية الاستدلال التي بواسطتها يتم الإدراك الموضوعي الصحيح والأمثل للحقائق. وقد نقلت لنا شفق الحوار الرمزي المليء بإشارات بديعة، والذي يتمثل في سؤال ابن رشد لابن عربي؛ هل نكشف عن الحقيقة بواسطة التفكير العقلاني؟ فكان الجواب؛ “نعم، لا”، “وبينهما تطير الأرواح من موادّها والعقول من أجسادها.”
اعتمدت شفق على تشظية المتن الروائي، إلى عدّة مواضيع تعالج نقاشات اجتماعية تخص الواقع التركي وأزمات الحياة المعاصرة، حيث توخت الإضاءة على وصف الناس في شوارع مدينة إسطنبول، التي تتوزّع بين الشرق بطقوسه الروحانية والغرب بماديته العلمانية. وتستبطن المناحي النفسية والعوالم الداخلية سابرةً أغوار الذات الإنسانية في سلوكاتها الشعورية واللاشعورية. والتجأت إلى وصف الهوّة البارزة في التدرّج الاجتماعي التركي، التي تتمثل في عالمين متناقضين، مجتمع النخبة البورجوازية الذي يعتمد على الثروة والسلطة، والمجتمع المعوز، والمهمش بالجرائم والفقر.
وقد أشارت إلى الاعتقال السياسي الذي لحق بأخيها الأكبر “أُميد” المؤيد للتّيار اليساري، واستعراضها لأشكال الاضطهاد والانتهاك الجسدي له، مع إظهار مدى تأثير هذا الحدث على نفسية الأسرة. كما أنها أبرزت درجة تقديس مفهوم الشرف، فعذرية الأنثى تمثل المعيار الوحيد الذي يحدِّد شرفها وشرف عائلتها في الطبقات المجتمعية المتدينة والملتزمة.
وفي الأخير، تعرض شفق اعتماد نساء الطبقة العليا على التّفوه باللعنات والشتائم بلغة أجنبية، لتجنب الإحساس بالذنب. من خلال قراءتي للنسخة التركية للرواية، أيقنت أنها رواية سردية بامتياز، تجمع بين الإمتاع الفني والعمق الفكري، والهدف منها متعدّد، والوصول إلى الغايات المنشودة حتَّم على الروائية شفق الغوص في المحور الرئيسي الذي يتمثل في كيفية الوصول إلى العقيدة الصحيحة من خلال ترابط الإيقاعات وتكاثف أفكار مدارس فلسفية مختلفة.
نستشف من هذا كله أنّها رواية تتحرك أحداثها على خطين زمنيين متوازيين، أما مضمونها فهو رقمي؛ نعم/لا، عدم/وجود، إيمان/إلحاد، وشرق/غرب؛ حيث يبقى هو أفضل وأقصر تعبير عن الرواية. أضع ترشيح شفق للبطلة لاجتياز امتحان اكتشاف الهوية عبر طريق ثالث، في خانة انتقاد شديد لكون الروائية وضعت على عاتقها ماض مليء بمؤثرات فكرية وروحية، عاشتها في كنف أسرة تمثل في الأصل صورة مُصغَّرة للمجتمع التركيّ بتركيبته الإيديولوجية المتنوعة والمتعدّدة. مما يجعلها في نظري غير مؤهلة فكريًا ونفسياً لهذا الامتحان.
أمّا ما جذبني لمواصلة القراءة، إضافة إلى التشويق الذي نجحت شفق في بنائه بشكل مستمر في الرواية. أنها من جهة رواية موازية للواقع، فهي تأخذ منه بقدر ما تعيد إليه من أسئلة وافتراضات واستجوابات، وتتميز بتقبل التعدّد، وتسمح بالتأويل، وترضى بالتجاوز والاختلاف. ومن جهة أخرى، أظن أن الاقتباسات الفلسفية، والفكرية والشعرية، ساعدت كثيرا على صنع مرونة حصرية في الرواية، لم أجدها في روايات أخرى.