أطباء العصر الذهبي الإسلامي: الرازي، العَالِم المُعجزة.

وقفت في مقال بعنوان CLINICAL STORIES AND MEDICAL HISTORIES RECORDED BY RHAZES على وصف الرازي لحالة طبية متعلقة بمرض أحد صمامات القلب، ولا أخفيكم كم أبهرني ذلك الوصف السريري الدقيق، وتلك الإحاطة العجيبة بأعراض المرض، في زمن لم يكن “الحكيم” يتوفر فيه سوى على حواسه وذكائه لتشخيص المرض وعلاجه. فهلم بنا نستذكر تاريخ هذا الطبيب العظيم الذي وضع ركائز الطب الحديث، وذاع صيته غربا وشرقا، حتى لا تكاد تجد بلدا لم يُطلق اسمه على جناح علمي، أو جامعة أو مستشفى.

هو أبو بكر محمد بن زكريا، ولد سنة (250 هـ/864) في “الري” قرب طهران الحالية، و مات عن 60 سنة بعد أن قضى معظم مسيرته في بغداد عاصمة الخلافة العباسية. كان في طليعة العلماء المسلمين في الطب، وكان كاتبا غزير الإنتاج، ألف أكثر من 200 كتاب في الطب والفلسفة والكيمياء والصيدلة والتشريح والفيزياء…شغل منصب مدير المستشفى الكبير لبغداد لجزء كبير من حياته المهنية. اشتهر بعمله في تنقيح المنهج العلمي وتعزيز التجريب والملاحظة. اطلع ودرس وعلق على الكتب المترجمة للعربية لكبار الفلاسفة والعلماء الرومانيين واليونان، مثل أبقراط وجالينوس وسقراط، والتي زخرت بها “دار الحكمة”، تلك المعلمة المعرفية التي أسسها ورعاها المسلمون في العهد العباسي، لتكون سمة بارزة في العصر الذهبي للإسلام.

من أعظم كتبه “تاريخ الطب”، “كتاب المنصور”، كتاب “الأدوية المفردة”. وقد تم تجميع ملاحظات الرازي الطبية والجراحية إلى جانب العديد من التشخيصات الجديدة والعلاجات المقترحة بعد وفاته في كتاب “الحاوي في الطب”. لم يكن هذا الكتاب مجرد تكريم لتألق الرازي، بل كان واحدا من أقدم الموسوعات التي جمعت معظم المعلومات الطبية المعروفة آنذاك. وقد ترجم إلى اللاتينية عام 1279 تحت مسمى Continens Rasis بواسطة فرج بن سالم، وهو طبيب من أصل صقلي يهودي. وطبع لأول مرة في بريشيا في شمال إيطاليا عام 1486 ثم أعيد طبعه مرارا في البندقية في القرن السادس عشر الميلادي (الصورة) ليصير أحد أعمدة التدريس الطبي بأوروبا، إلى غاية 700 سنة بعد وفاة الرازي.

كتب في علم وظائف الأعضاء البشرية وفهم كيفية عمل الدماغ والجهاز العصبي والعضلات. كان إنجازه الكبير الآخر هو فهم طبيعة المرض، وعدم التوقف عند الأعراض.

يعتبر الرازي مؤسس طب الأطفال، بكتابه “أمراض الأطفال” ، الذي كان على الأرجح أول تدوين يميز طب الأطفال كمجال طبي منفصل. في كتابه “الجدري والحصبة”، أعطى وصفا دقيقا للمرضين وأكد لأول مرة أنها منفصلين ولكل منهما سببه. ألقى باللوم على طبيعة الدم، ولأنه لم يكن يعرف أي شيء عن الميكروبات آنذاك، فقد كان هذا استخلاصا منطقيًا، وعلى الطريق الصحيح من الوصف الدقيق لسبب المرض.

ألف الرازي على نطاق واسع في أخلاقيات الطب Ethics والعلاقة بين الطبيب والمريض، مشددا على أنها يجب أن تكون مبنية على الثقة. بالنسبة للرازي، لا يكفي أن يكون الطبيب جيدًا في وظيفته، بل يجب أن يكون قدوة لمرضاه. كان يعتقد أن اتباع نهج شامل للطب أمر حاسم، مع مراعاة خلفية المريض والنظر في أي أمراض تعانيها الأسرة القريبة. كما كان مقتنعا بالعلاقة بين العقل والجسم في السعي لتحقيق توازن صحي، بِحَثه على أهمية ممارسة الرياضة واتباع نظام غذائي صحي.

كان رائدًا في طب العيون وكان أول طبيب يكتب عن علم المناعة والحساسية. تشير السجلات القديمة إلى أن الرازي اكتشف الربو الناتج عن الحساسية Allergic asthma ، وكان أول من حدد الحمى كآلية دفاع ضد الأمراض والعدوى.

ليس ما ذكرته هنا سوى جانب بسيط من العلوم الطبية التي تبحر فيها هذا العالم المعجزة، والذي أنتج في حياته ما سترتكز عليه البشرية جمعاء لقرون من أجل فهم جسم الإنسان، ووصف الأمراض وعلاجها، ليصير أحد أبرز أطباء العهد الذهبي الإسلامي islamic golden age والقرون الوسطى.
_____________

(الصورة: نسخة نادرة مطبوعة في البندقية عام 1529م لترجمة كتاب “الحاوي في الطب” للرازي)

المصادر:
Arabic and Islamic Science and Its Influence on the Western Scientific Tradition : Medicine
https://www.wdl.org/en/themes/islamic-science/medicine/

قصة الإسلام: أبو بكر الرازي. راغب السرجاني
https://islamstory.com/ar/artical/22117

Clinical stories and medical histories recorded by Rhazes
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/26959633

Rhazes (AD 865–925) and his early contributions to the field of pediatrics
https://link.springer.com/article/10.1007/s00381-017-3493-z

Biography: Rhazes: His career and his writings
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S1045187001700131

1xbet casino siteleri bahis siteleri