الطبيب واللغة والهوية

يتم تلقين الطب، كما معظم العلوم في بلدنا، باللغة الفرنسية، لاعتبارات تاريخية وسياسية لا يسع المقام هنا لتفكيكها، وأخرى بيداغوجية علمية قابلة للنقاش، ترتكز بالخصوص على فكرة محورية مفادها أن الفرنسية أقدر على إيصال علم أغلب من صاغوه غربيون ولاتنيون، وأن تعريب العلوم من شأنه أن يضيف عقبة عوض أن يحل مشكلة، كما أن العربية -حسب من يميل لهذا الطرح- لا تليق تقنيا بأن تكون وعاء للعلوم الدنيوية المتطورة حاليا.

كان قدرنا هو الفرنسية في الطب، وسلمنا مُكرهين بهذا التوجه اللغوي قبل أن ندرك لاحقا أنك لتكون طبيبا، يجب أن تُتقن الإنجليزية التي تشكل لغة أغلب البحوث العلمية والمجلات المتخصصة، وأن الفرنسيين أنفسهم ينشرون أعمالهم بالإنجليزية كي تُقرأ حول العالم. لكن، ما أريد إثارته هنا ليس جدلية لغة التعليم، بل نقطة أخرى منفصلة عنها: لماذا نحشر اللغة الأجنبية في حواراتنا ومعاملاتنا اليومية التي لا تنتمي لدائرة العلم الحديث “المترفع” عن العربية؟

سيقول قائل: حرية الفرد تقتضي أن يتكلم باللغة التي يرتاح فيها، وجودة التواصل أهم من وسيلته…نعم، لست بصدد التحجير على أحد أو فرض لغة الحوار على من أخاطبهم، ولكل فرد الحق في انتقاء كلماته كما يحلو له طالما أفهمه ويفهمني، ولكني في موقع تحليل ظاهرة فقط…ظاهرة جديرة بالتوقف عندها برأيي.

حين يأتيني مريض يتكلم بالفرنسية من Bonjour إلى Au revoir وما بين هذا وذاك؛ لأنه ولد ودرس وربما عاش في بيئة مفرنسة بالمطلق، فيصعب عليه التعبير بغير ذلك، وتحضره الكلمات الفرنسية قبل الدارجة والفصحى والأمازيغية، فإني أتفهم ذلك، وهذه النوعية تشكل نسبة ضئيلة جدا على كل حال.

لكن، حين يُصر المريض على لملمة جُمله بفرنسية معطوبة، ويكابد الكلمة كي يتحدث بها، والظاهر عليه أنه غير مرتاح في التعبير عن مشاعره وأعراضه بلغة دخيلة عليه، فإني أتساءل بعمق…لماذا؟ فلا أجد سوى جواب وحيد: لم تعد الفرنسية وعاء التواصل فحسب، بل علامة المرتبة الاجتماعية، ورقي مزعوم في الفكر، وتميز وهمي عن غير المفرنسين… فأصبح مواطنو الطبقة الوسطى الذين تخطوا مرحلة الدراسات الجامعية واستوفوا من فرص التعليم والشغل ما قد كُتب لهم، يتكلمون الفرنسية أو يحاولون، فقط لإثبات الذات، والتبرؤ من دركات المجتمع السفلى التي تعج بالمعربين، بوعي أو بغير وعي.

للأطباء في رأيي مسؤولية وفيرة في هذا الانفصام، لأن حديثهم بالفرنسية يتجاوز أحيانا الدائرة المهنية، ويتعداه إلى التواصل اليومي مع المرضى، بل منهم من يشرح المرض والعلاج المقترح بفرنسية يصعب على المتلقي إدراكها.

زرت زهاء 20 دولة، وخلصت إلى أن المغرب لا يزال فعلا يتخبط في توطين هويته وثقافته ولغة شعبه بشكل واضح وصريح…فقط في المغرب يتجشم المغربي عناء الحديث لمغربي مثله بالفرنسية، وهما لم يدرسان قط في أقسام البعثات الأجنبية…فقط في المغرب، يحمر وجه المغربي حين يُلحن في كلمة فرنسية ولا ينطقها كما كان ينطقها موليير…فقط في المغرب تُستقبل بالفرنسية حين تُهاتف الطبيب، واستقبال الشركات، وطلبيات المطاعم. فقط في المغرب يُستهزأ بك حين تتلعثم في لغة ليست لغتك، وتزيد فرصك في قضاء حوائجك اليومية حين تُتقنها.

ختاما، لا أجد شخصيا أي حرج في اختيار مرضاي للغة كلامهم طالما أفهمهم -مثلما أختار أنا اللغة التي تُناسبني طالما يفهمونني جيدا-، وأتحاشى إطلاق أحكام مسبقة، إيجابية كانت أو سلبية، انطلاقا من الاختيار اللغوي. لكني أحب أحيانا، أن أضع مرضاي في “منطقة الراحة اللغوية”، مشجعا إياهم -بشكل غير مباشر- على التحدث باللغة التي يرتاحون فيها أكثر، دون أن يشعروا بسيف الرقابة المجتمعية التي تهمس في أذنهم أنْ تحدثْ عند الطبيب بالفرنسية وجاهد نفسك على ذلك؛ لأن سلامة اللغة تُفضي إلى حُسن الفهم، وحُسن الفهم مدخلُ حُسن التطبيب، فمن أين لنا بالترجمة الفرنسية لجملة بليغة المعنى من قبيل: “عندي شي تشحريجة فالكاشوش وشي حريق مورا النواضر”؟

1xbet casino siteleri bahis siteleri